تظل فلسطين قضية العرب الاولي, في حين اصبح العراق كارثة العرب الاولي بلامنازع, والفارق بين الحالتين ان الاحتلال الواضح والمباشر نهايته إلي زوال, هكذا يحدثنا التاريخ مهما يمتد به الزمن الي عقود وربما قرون فما بالنا ونحن نتحدث عن مجرد ستين عاما أو أكثر قليلا... أما في العراق فالقضية مختلفة, انها حالة من التدمير الذاتي للهوية والانتماء والجغرافيا والتاريخ, اشبه ماتكون بالسرطان السياسي الذي يستشري بعد فقدان المناعة الوطنية. عشرون عاما مضت منذ ان قرر صدام حسين في الثاني من اغسطس عام1990 غزو الكويت في واقعة فريدة من نوعها في التاريخ العربي الحديث, وجاء قرار الغزو وفق حسابات قاتلة لاتزال ملابساتها وخفاياها مجهولة حتي اليوم والي أجل غير مسمي لأن التاريخ الحقيقي لما حدث لن يكتب او يعلن لاسباب كثيرة ومعروفة... وللانصاف نقول ان حكاية وقوع صدام في المصيدة. ان كانت صحيحة فانها لاتقلل من مسئوليته أمام شعبه خاصة انه رفض النصائح المتكررة التي انهالت عليه من القادة والزعماء العرب وفي المقدمة منهم الرئيس حسني مبارك الذي فعل المستحيل من النداءات والاتصالات المباشرة والمؤتمرات واللقاءات وذلك لمعالجة الوضع الكارثي باقل خسائر ممكنة, الا أن صدام لم يعط الفرصة لنفسه للتفكير والمراجعة وللنظر الي احوال وطنه وشعبه, وهو درس نهديه الي الباحثين دوما في قضية المسئولية.. ومن يتحملها... سقط الجدار النفسي الذي يحمي القيم والاعراف والاصول العربية لحظة دخول قوات صدام حسين الي الكويت, ولم يكن ممكنا الصمت والانتظار الي أن يتم هضم الكويت بعد ابتلاعها وكان لابد من جراحة مؤلمة بالنسبة للعرب, وقام التحالف المشروع بازاحة العراقيين لتعود الكويت إلي اهلها وحكامها وان بقي الجرح نازفا في القلب والوجدان... ومع سقوط الجدار النفسي نتيجة غدر الشقيق لجأت الدول العربية خاصة الخليجية الي من يحميها, وبعد ان كان مرور سفينة امريكية حربية في مياه عربية مثار شجب واستنكار, توالت الدعوات ليس فقط لاستضافة تلك السفن وانما لاقامة القواعد في منطقة الخليج التي تتصدر الاولويات في قائمة المصالح الامريكية والغربية. والغريب والمدهش انه حتي بعد تحرير الكويت, لم يفكر صدام حسين في تداعيات ماحدث وأن المصيدة الحقيقية التي لاتحتاج الي شرح وتفصيل قد بدأت, وتوالت المشاهد التي تثير الجدل حول امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل, ويتذكر الجميع الجلسة الشهيرة لمجلس الامن وقت ان عرض الوفد الامريكي لقطات مصورة علي اعضاء المجلس تؤكد امتلاك بغداد تلك الاسلحة, ويقع نظام صدام في غيبوبة سياسية وعسكرية واقتصادية كاملة قبل أن يفارق الحياة لحظة سقوط بغداد ودخول القوات الامريكية اليها بعد ليلة تصلح لواحدة من أكثر المسرحيات الهزلية في التاريخ.. ويدخل العراق الي النفق المظلم الذي احاطته الدعايات الكاذبة قبل الغزو بانه سيكون واحة للحرية والديمقراطية ونموذجا يحتذي لبقية دول المنطقة, ويوما بعد يوم تزداد وضوحا الملامح المرعبة لتلك الكارثة والتي تتجاوز بآثارها المدمرة أرض بلاد الرافدين لتطول بقية الدول المجاورة, وتحولت الساحة العراقية الي حقل للتجارب السياسية من كل اللاعبين وما أكثرهم من الداخل والخارج... وامتلأت الساحة بادعياء الوطنية واصحاب الاقنعة والمرتزقة واغلبهم جاءوا فوق الدبابات الامريكية بمزاعم نصرة الشعب العراقي المظلوم, فإذا بهم يتحولون الي مصاصي دماء لثروات هذا الشعب واهدار حاضره ومستقبله في وقت واحد... وفوق ذلك كله كانت القوات الامريكية والدول المتحالفة في غزو العراق تقوم بأسوأ مهام يسجلها التاريخ, وعرف العالم فضائح ابو غريب والحديثة وقصف الفالوجا, وعمليات الابادة الجماعية التي جرت علي أيدي المجموعات الملثمة التي تقطع رءوس ضحاياها وترمي الجثث في الانهار والمقابر الجماعية حتي لاتعرف هوياتها... ويطول الحديث عن المبالغ التي تم رصدها لاعادة اعمار العراق واستنزاف عائدات البترول وهي ملفات عالقة في ادراج المسئولين بالامم المتحدة والبيت الابيض.. تنتظر هي الاخري محاكمة المتسببين فيها بلاجدوي. كل ذلك وايران تتابع عن كثب البدايات ثم سرعان مابدأت خطواتها للنفاذ الي الجارة اللدود التي ظلت دائما برغم الاخطاء والخطايا حائط الصد للطموح الايراني الذي تطارده احلام اليقظة لاعادة الامبراطورية الفارسية القديمة.. وجدت طهران قنوات التسلل والاختراق واستفادت من غياب الرؤية الامريكية السليمة, فاذا بها تجمع النقاط التي تتساقط من الامريكان, وتستفيد من الانشغال بالاحداث الدامية في العراق وافغانستان وفلسطين وارتفاع اسعار البترول الي مستويات قياسية في ذلك الوقت لبناء ترسانة عسكرية تكون قادرة علي الردع اذا ما انتبه العالم لمقاصدها واهدافها.. ولابد هنا من الاشارة إلي المهارة الايرانية في الاستفادة من الخبرة السابقة في التعامل مع الامريكيين, وادراك نواحي القصور والخلل في خططهم واستراتيجيتهم, وتحول الامر الي امتلاك زمام المبادرة علي الساحة العراقية ووضع القوات الامريكية أمام خيارات صعبة دفعت بالرئيس أوباما الي التعجيل بسحب هذه القوات واعادتها سالمة بصرف النظر عن الاهداف التي جاءت من أجلها.. ومن السخرية ان يعلن الرئيس الامريكي أمس الاول عن انتهاء المهام القتالية لقواته في العراق بحلول نهاية هذا الشهر, ولم يسأل سيد البيت الابيض نفسه ولم يسأله احد عن طبيعة واهداف هذه المهام لأن القوات الامريكية لم تواجه جيشا بالمعني المعروف ولم تخض حربا قتالية في الجو والبر سواء أمام قوات صدام أو غيرها, كما أن النظام العراقي السابق قد سقط قبل سنوات, فعن اي مهام يتحدث وقواته تغادر بلدا يعاني من الفراغ السياسي بسبب الصراع علي تسمية الرئاسات الثلاث للحكومة ورئيس الدولة والبرلمان؟!!, ولن نتحدث بالتفصيل عن الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب العراقي الذي يعد واحدا من أغني شعوب الارض ولكنه الآن يعيش الفتنة الطائفية والمذهبية التي ترتوي يوميا بدماء الابرياء في حين هاجر عدد من سكانه يفوق ماحدث للفلسطينيين. عن أي مهام قتالية يتحدث الرئيس أوباما وهو يترك العراق غارقا في ازماته وبدون ان يحقق ولو واحدا من الوعود التي ساقها سلفه بوش باقامة النموذج الذي يحتذي؟! والمأساة التي تتواصل علي أرض العراق تفتح ابواب جهنم علي المنطقة باسرها اذا اقدمت اسرائيل بدعم امريكي علي ضرب المنشآت النووية الايرانية والمؤشرات كلها تؤكد ان احمدي نجاد لن يتراجع عن فرصة ذهبية لن تتكرر امام بلاده لبسط النفوذ والهيمنة. والدول الخليجية وشعوب المنطقة لاتزال تدفع الثمن باهظا منذ ان حدثت الكارثة قبل عشرين عاما وقت غزو الكويت.. وهي الآن تقف عاجزة أمام ملامح كارثة اخري اكثر تدميرا اذا اشتعل عود ثقاب بجوار براميل البارود التي تزدحم بها مياه الخليج. muradezzelarab@hotmailcom