الزمن أكبر دليل علي التغير, فالجماهير التي كانت تقبل في مرحلة سابقة ما يقدم لها من سياسات وإعلام, أو إعلان عن هذه السياسات لم تعد نفس الجماهير, قد يكون الأشخاص هم أنفسهم, ولكن قبولهم اختلف, واضطرارهم للقبول بما هو مطروح أو مفروض عليهم لم يعد موجودا, هذا الاضطرار تراجع أو انهزم أمام تغيرات محلية وإقليمية ودولية أدت جميعها في النهاية إلي تغير المعادلة, ولا أقصد هنا بتلك التغيرات مجرد الحديث عن التغيرات السياسية فقط, ولكن أضيف إليها أيضا التغيرات المرتبطة بمجالات التقنية والاقتصاد و مناسبة ما أشير إليه هنا مرتبط بالتغيرات التي تشهدها منطقتنا العربية, وهذه التغيرات وضعت الأنظمة وأجهزتها الإعلامية أمام مأزق واختبار مهم, هو كيف يمكن لها أن تتعايش مع تلك المتغيرات الجديدة, كيف لها أن تستمر في التواصل مع جمهورها الذي لم يكن أمامه من قبل إلا القبول بما يقدم له من غث أو سمين من خلال شاشات وسماعات وأوراق تسود بضم التاء وفتح السين بما يروق للنظام أي نظام أن يمرره أو يفرض علي شعبه. اليوم بات الأمر مختلفا, وأصبحت قدرة المتلقين علي اتخاذ قرارهم بإعدام صحيفة أو محطة تليفزيونية لا تستدعي أكثر من قرار الضغط علي زر ليصدر حكمه بالإعدام علي تلك المحطة أو ذلك البرنامج.. يضاف إلي ذلك تلك الدرجة الملحوظة من تطور وعي المتلقين الذين باتوا قادرين علي كشف أي محاولة للتغرير بهم, ورفض أي محاولة لتغييبهم. هذه المتغيرات جميعها وضعت أمام القائمين علي عملية الاتصال بالجماهير عبئا جديدا, ويضاف إلي ذلك العبء تلك القيود التي عاشت فيها هذه الوسائل الإعلامية طوال عقود, وما زالت هذه القيود حاضرة وفاعلة ومؤثرة بما يشكل قيدا علي قدرة هذه الوسائل علي التطور لمواكبة أو ملاحقة تلك التغيرات والتعاطي مع تلك المتغيرات ومع الجمهور الجديد. أنا هنا لا أدعو الأنظمة إلي التخلص من وسائل إعلامها, وأيضا لا أدعو إلي منع القوي السياسية الأخري الحاضرة في المجتمع من الحضور إعلاميا بأشكال مختلفة, ولكنني دوما كنت أتحدث عن وجود إعلام ذكي يتمكن من أن يكون داعما وسندا قويا وحقيقيا للمجتمع وللنظام في إرساء قواعد صحية لعلاقة المواطن بالدولة والدولة بالمواطن. هذا الإعلام الذكي الذي يصب في صالح الوطن كله, نظاما وشعبا, هو ذلك الإعلام الذي يعكس بحق صورة المجتمع وصورة الوطن, هو ذلك الإعلام الذي يفتح المجال أمام القوي السياسية والمجتمعية لكي تكون حاضرة ومعبرة عن رأيها ومواقفها في حدود القواعد الأساسية التي يتوافق عليها المجتمع, هو ذلك الإعلام الذي ينجح في أن يكتشف لغة الخطاب الصحيحة التي يصل بها إلي المواطن في الشارع, واللغة الصحيحة التي بها يمكن أن يحمل طموحات وآمال هذا المواطن إلي أوسع دائرة ممكنة. هو إعلام يلعب دور التواصل بين أطراف المجتمع كله حكاما ومحكومين. هذه الصورة ليست صورة مستحيلة التطبيق, ولكنها ممكنة في ظل شروط عدة من بينها صدق الرغبة لدي الأنظمة في استعادة جماهيرها, وصدق وقدرة القائمين علي هذه الأجهزة الإعلامية في لعب هذا الدور, والتخلص من عوائق وموانع عفا عليها الزمن, ولم تعد صالحة للتطبيق في زمن جديد, لم يعد أمامنا إلا البحث عن كلام جديد لهذا الزمن الجديد, فلم يعد هناك مجال لنجاح حقيقي باستخدام كلام قديم في زمن جديد. [email protected]