اهم ما في مشروع برهان غليون النقدي انه لا يفسح مجالا كبيرا للايديولوجية لكي تتحكم بمساره بل يخلص قدر استطاعته للمعرفي علي حساب الايديولوجي ولذلك تأتي آراؤه صادمة أحيانا للبعض وقاسية للبعض الاخر لا ينزلق الرجل في السجالات التي تحاول اختصار العالم في لونين, ولا يحاول أن يفرض عليك رأيه بل يحاول دائما عبر كتبه أو مداخلاته في التلفزة العربية أن يفتح مجالا للحوار مع الواقع ومساءلته في الوقت نفسه الذي يفتح آفاقا للحوار مع رموز التيارات الفكرية والسياسية التي يختلف معها. والرجل الذي عرفه قراء العربية منذ كتابه ذائع الصيت اغتيال العقل الذي ركز فيه ببراعة علي أزمة العقل العربي بين التبعية للماضي والتبعية للغرب, ظل وفيا لرسالته الأساسية وهي العقلانية الفكرية والديمقراطية كمنهج سياسي أصيل للحكم, كما ظل وفيا لنقد المشروع العربي الراهن إن سلمنا جدلا ان هناك مشروعا عربيا وكشف هشاشته في الوقت الذي لم يوفر نقده الحاد في احيان كثيرة للمشروع الأمريكي في المنطقة. ولكنه سواء في نقده للواقع العربي الراهن أو في نقده للمشروع الأمريكي للسيطرة علي العالم واشعال الحرب ضد ما تسميه أمريكا الارهاب لم يحرض علي الكراهية بل علي الوعي والمعرفة والنقد. وفي حواره معي كنت أتوقع معظم اجاباته فقد عرفت الرجل وحاورته من أكثر من عشرة أعوام عن كتابه اغتيال العقل, وتابعته لسنوات فيما يكتب عن الديمقراطية, كداعية رصيدن لها في عالمنا العربي المليء بجزر الديكتاتورية التي تتسع رقعتها يوما بعد يوم بشكل يكاد يلتهم الأخضر واليابس وما وراءهما. ورغم ان الاجابات التي تأتي كما يتوقع الصحافي لا تمثل بهجة مهنية ان صح هذا التعبير ولكن ان تجد مناضلا ديمقراطيا ثابتا علي مواقفه الفكرية ومنهجه الأصيل في زمن تتحول فيه البوصلة بالمفكرين يمينا ويسارا من دون هوية فرن هذا الثبات الرصين غير المتكلس يمثل للصحافي فرحا يستحق أن يعلنه علي الناس ليعلموا أن لدينا مفكرين لا يحركون بوصلة أفكارهم ومناهجهم باتجاه الريح السائدة. برهان غليون من المفكرين الذين قد تختلف معهم بحسب انتمائك الفكري أو السياسي ولكنه من أولئك المفكرين الذين يحرضونك كلما كتبوا أو تحدثوا علي المحبة والحوار واحترام العقل عوضا عن اغتياله في حواره أكد غليون بعقلانية لا تطرف فيها ان المشروع الامبراطوري الأمريكي محكوم عليه بالفشل وان السياسات الأمريكية بالمنطقة لا تحترم قيم الديمقراطية الأصيلة كما تروج الة الدعاية الأمريكية كما انها اي السياسات الأمريكية تتعارض بحسب غليون مع امال العرب في التحرر الوطني. ومع ذلك يري المفكر العربي الكبير ان فهم أمريكا ضرورة لنعرف كيف نحاورها أو نتماس مع العصر الذي فرضت أجندة عولمته أمركة العالم. ويفرق غليون في الحوار بين الحكومة الأمريكية والشعب الأمريكي من دون أن يتورط في القول بأن هناك انفصالا سياسيا بين الشعب الأمريكي وحكومته كما قد يتصور البعض ولكنه يقصد ان نلتفت الي المجتمع الأمريكي المتعدد والذي لا يتورع, بحكم قيمه الديمقراطية والليبرالية, ان يرفض سياسات ادارته السياسية التي تتسم بالعدوانية في أحيان كثيرة. وفيما يلي نص الحوار: ** في البداية دعني أسألك: هل فهم العرب الولاياتالمتحدة بشكل صحيح؟, وإذا كنت تري اننا لم نفهم أمريكا فما هي الاسباب التي أدت الي التباس الفهم العربي للقوة العظمي؟ *غليون: يتوقف الأمر علي من تقصد بالعرب, فالعرب ليسوا فريقا واحدا, ولكنهم يختلفون بين حكومات وشعوب ومستثمرين وأحزاب الخ. وكل طرف يفهم أمريكا, أو يفهم من أمريكا ما يريد ان يفهمه, أو ما ينتظره منها. فالحكومات العربية عموما فهمت أن أمريكا كما كانت دائما حليفة طبيعية لها, لأنها اداتها الرئيسية في حفظ الاستقرار في المنطقة, أي في الحفاظ علي الوضع القائم, ثم في محاربة قوي زعزعة النظام الصاعدة, سواء كانت اسلامية معتدلة أو متطرفة ارهابية. وقد فوجئت الحكومات العربية جميعا بالفعل في السنوات الثلاث الماضية لان أمريكا غيرت من سياستها بعد11 سبتمبر2001, وطلبت من الجميع القيام بإصلاحات ضرورية لضمان الاستقرار علي المدي الطويل, بينما اعتقدت هذه الحكومات ان تحقيقها يزيد من مخاطر زعزعة الاستقرار في الوقت الراهن, وربما يضعها أمام مخاطر مصيرية, وهو ليس في صالح امريكا نفسها أيضا. وهكذا دخلت الحكومات العربية في نزاع مع واشنطن, وأظهرت عن حق انها لم تفهمها, أي لم تفهم تبدل الموقف الأمريكي, ولا منطق الحسابات الذي يقف وراءه, والذي يجعله يتجاهل هذه المخاطر, ولم تتردد في مقاومة السياسة الأمريكية وإبراز خلافها معها, لأن الأمر يتعلق بمصيرها, وليس بمصالح جزئية تعني الدولة ككل أو المجتمع. وفي النهاية نجحت الحكومات العربية في اقناع واشنطن بأن مشاريع الإصلاح الطموحة ليست في صالح أحد, لا حكومات الشرق الأوسط ولا الولاياتالمتحدة, وتكاد الرموز ترجع الي مجاريها لولا المشاكل المعقدة التي خلقتها سياسة واشنطن المغامرة بالفعل واللاعقلانية في السنوات القليلة الماضية, وفي مقدمتها الحرب ضد الارهاب, ومحورها الحرب الكارثية في العراق وتراجع الولاياتالمتحدة عن دفع عملية المفاوضات السياسية في الشرق الأوسط لصالح التسليم الكامل والاستسلام أمام سياسة تل أبيب التوسعية والاستيطانية المتطرفة واللاإنسانية ايضا, عواقب هذه السياسات الأمريكية لاتزال صعبة الحل والامتصاص, ولاتزال مصدر توتر في العلاقات العربية الأمريكية. هكذا تري ان الحكومات العربية فهمت أمريكا أكثر مما فهمت أمريكا نفسها, وساعدتها علي العودة الي الطريق الصحيح لحفظ مصالحها, لأن هذه المصالح متضامنة فعليا مع مصالح القوي العربية التي يستند اليها اليوم الوضع القائم الاقليمي, أو نظام الشرق الأوسط لما بعد الحركة الشعبية القومية الاستقلالية العربية. والقاعدة الرئيسية لهذا النظام والحلف الأمريكي العربي الذي يحمله هو المصلحة المشتركة الحقيقية في تغييب الشعوب العربية عن تقرير مصيرها السياسي ونزع السيادة عنها, وحول هذه المسألة الجوهرية يكاد التفاهم يكون كاملا. ولا يختلف وضع الشعوب العربية عن وضع الحكومات فهي فهمت أيضا ما تريده أمريكا, أي اقامة تحالفات قوية في الشرق الأوسط تضمن استقرار الأوضاع بما يحفظ مصالحها الاستراتيجية ومصالح اسرائيل التي أصبحت حليفا تاريخيا لها, لكن ما تحتاج الشعوب العربية الي التفكير بشكل معمق فيه هو التمييز بين أمريكا الحكومة والنظام, وأمريكا المجتمع والشعب. فمن الخطأ التوحيد بالمطلق بين الطرفين وفي أمريكا قوي محبة للعدل والسلام ليست بالضرورة معادية لحقوق العرب واستقلالهم, ولا ينبغي التضحية بها ورفض الاستفادة منها. وربما كان بمقدورها تقديم مساعدة للقضايا العربية لا تستطيع القوي العربية نفسها تقديمها. ** تسود الكراهية المتبادلة بين العرب والولاياتالمتحدة, برأيك من هو المسئول عن صناعة الكراهية غير المبررة بين الطرفين؟ *غليون المسئول الأول بالتأكيد هو السياسات الأمريكية نفسها, فمنذ حرب يونيو1967 أصبحت هذه السياسات معادية بشكل كامل للمطامح العربية الكبري, معادية للحرب والديمقراطية أولا, لأنها تخشي من أن ينجح الرأي العام في دفع ممثليه الي الحكم والتعبير عن النزعة الاستقلالية التي يشعر الساسة الأمريكيون بأنها تشكل تهديدا لمصالحهم النفطية والاستراتيجية, معادية لآمال العرب في التحرر أيضا من نير الصهيونية, وايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية, التي نشأت نتيجة تمتع اسرائيل بدعم لا مشروط من قبل الكتلة الأطلسية. معادية لأي شكل أيضا من أشكال الوحدة أو التعاون الحقيقي, بما في ذلك الاقتصادي, بين البلاد العربية, خوفا من أن ينجم عن ذلك اختلال في ميزان القوي الاستراتيجية يضعف مركز اسرائيل ويفرض علي الولاياتالمتحدة والدول الصناعية عموما شروطا مختلفة للسيطرة علي الطاقة النفطية. وليس هناك شك أن الحكومات العربية, التي تعرضت لضغوط قوية أمريكية في السنوات الماضية, وجدت في تعبئة الرأي العام, وفي شحنه بشكل أكبر ضد الولاياتالمتحدة, وسيلة جديدة لتعزيز موقفها, وإعادة إضفاء نوع من المشروعية علي نظمها التي تعاني من انحسار الشرعية. فبينما كان الرأي العام العربي ينظر إليها علي أنها قاعدة النفوذ الأمريكي وحامله الأول, بدت في السنوات الماضية, بعد الحملة المنظمة لحشد الشارع وراءها, وكأنها تدافع عن الاستقلال العربي, أو عن بعض منه, في وجه الامبريالية الأمريكية, لقد زاد الكره لأنه أصبح مصلحة مشتركة بين الشعوب والحكومات, مما حرر العديد من أجهزة الإعلام العربية أيضا من قيودها التقليدية في هذا الموضوع.