أحدث إعلان الدكتور محمد البرادعى، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فى نهاية عام 2009، عن رغبته بالترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية شريطة إجراء الانتخابات تحت إشراف قضائى ورقابة دولية وتصويت المصريين بالخارج وتعديل الدستور بما يسمح بدخوله السباق الرئاسى، دويا هائلا فى الساحة السياسية المصرية، تحطم على إثرها أحد التابوهات العتيقة فى "العقيدة السياسية" وهو عدم إمكانية تغيير النظام من خارجه. ومع عودته شبه النهائية إلى القاهرة فى فبراير 2010 وبعد مضى نحو ثلاثين عامًا من الغربة، خلق البرادعى قوة دفع هائلة لعملية التغيير التى كانت تتفاعل بمصر منذ سنوات، بإعلانه عن بيان المطالب السبعة للتغيير، مما شجع قوى محافظة كجماعة الإخوان على تغيير تكتيكاتها السياسية مع النظام البائد وقيادة حملة لجمع مليون توقيع على البيان. ومثل البرادعى خلال شهور قليلة، مصدر الإلهام الرئيسى لآلاف الشباب المصرى، الذين أسسوا حملة "دعم البرادعى ومطالب التغيير"، ليلعبوا مع أبناء جيلهم فى حركات "6 أبريل" و"شباب من أجل العدالة والحرية" وشباب أحزاب "الجبهة" و"الغد" و"الكرامة"، الدور الرئيسى فى تنظيم مظاهرات 25 يناير، التى تفجرت على إثرها أحداث الثورة المصرية. وبعد شهور من سقوط الرئيس السابق حسنى مبارك، أعلن البرادعى عن نيته الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية، قبل أن ينسحب خلال شهر يناير قبل الماضى، اعتراضًا على سوء إدارة المرحلة الانتقالية التى تدفع البلاد بعيدا عن الثورة، ولأن ضميره لن يسمح له بالترشح لأى منصب رسمى إلا فى إطار نظام ديمقراطى حقيقى يأخذ من الديمقراطية جوهرها وليس فقط شكلها. ومع الإعلان عن تأسيس حزب "الدستور"، عاد البرادعى إلى الساحة السياسية، رغم استمرار حملات التشويه المتدنية أخلاقيا ضده، لينفذ وعده الذى قطعه على نفسه بالاستمرار فى العمل مع الشباب ووسط جماهير الشعب، لتمكينهم من المشاركة الفعالة في العمل السياسي، تمهيدا لتوليهم زمام أمور مصر ومقدراتها في المستقبل القريب، وتحقيق أهداف الأمة فى "الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية". وعلى الرغم من تأكيدات البرادعى أنه سيترك قيادة الحزب - الذى يرأسه مؤقتا - للشباب بحلول انعقاد المؤتمر العام للحزب خلال الشهور المقبلة، إلا أنه لم يدخر جهدا خلال الفترة الماضية فى التغلب على عدد من الأزمات الحادة التى واجهت الحزب، بسبب وجود فجوة فى الرؤى وأساليب الإدارة بين قيادة الحزب وقاعدته الثورية الشابة، وهو ما نجح البرادعى فيه إلى حد كبير. ومع زلزال "الإعلان الدستورى" الذى أصدره الرئيس السابق محمد مرسى فى 22 نوفمبر الماضى، أطل البرادعى على واجهة المشهد السياسى بقوة، ليقود "جبهة الإنقاذ الوطنى" فى معركة قاسية مع نظام جماعة الإخوان، من أجل استرداد الثورة التى لم يتوقف عن اتهام الإخوان بسرقتها. وعندما حانت لحظة رحيل نظام الإخوان لم يتخلف البرادعى - الذى اعتاد البعض على اتهامه بالإنسحاب من المشهد فى اللحظات الحرجة - عن دوره الوطنى، فحمل على عاتقه مسئولية التحدث باسم ثورة 30 يونيو وإجراء محادثات مع الجيش حول خارطة المرحلة الإنتقالية، وها هو اليوم يقبل مسئولية رئاسة وزاء مصر فى منعطف تاريخى خطير، ليكون أول رئيس حكومة ثورى منذ اندلاع الموجة الأولى من الثورة فى 25 يناير 2010، وليستحق بذلك لقب الرجل الذى هزم نظامين. ولد محمد البرادعى، نجل مصطفى محمد البرادعى، نقيب المحامين الأسبق فى حى الدقى بالقاهرة عام 1942، وتخرج فى مدرسة الأورمان النموذجية ثم فى كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1962، وحصل على درجة الماجيستير فى القانون الدولى من معهد "الدراسات الدولية والتنمية" بجينيف فى سويسرا، وعلى شهادة القانون الدولى من جامعة نيويورك عام 1964، ليبدأ فى نفس العام حياته العملية فى وزارة الخارجية المصرية. واستمر عمل البرادعى، الذى ينحدر من قرية "إبيار" بكفر الزيات محافظة الغربية لجده العالم الأزهرى محمد البرادعي الحاصل على شهادة العالمية من الأزهر الشريف، فى السلك الدبلوماسى لمدة 16 عاماً، شغل خلالها عدة مناصب، أبرزها مندوب مصر باللجنة الخامسة المعنية بالشئون المالية والإدارية فى بعثة مصر الدائمة بنيويورك عام 1967، حيث أصغر أعضاء البعثة سنا. وفى عام 1974 وحين كان عمره 32 عاما فقط، عمل مساعدا لوزير الخارجية المصرى الأسبق إسماعيل فهمى، الذى عهد إليه بأكثر الموضوعات حساسية، ليصبح الذراع اليمنى لفهمى وأقرب مساعديه وأكثرهم محلا للثقة. وبعد حرب أكتوبر 1973، عمل البرادعى ضمن فريق مفاوضات اتفاقية فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل، وعارض أثناء عمله فى وزارة الخارجية، قرار الرئيس السادات، بانضمام مصر لمعاهدة حظر الانتشار النووى، وكتب مذكرة أوضح فيها أن هذه الخطوة ليست من مصلحة مصر طالما لم توقع عليها إسرائيل. ويقول البرادعى "العرب دخلوا فى اتفاقية وقف الانتشار النووى كالقطيع ثم بكوا لعدم انضمام إسرائيل إليها وكان ينبغى الانتظار حتى تنضم إسرائيل"، كما ترك البرادعى، الخدمة فى الخارجية المصرية عام 1980 وفضل الانتقال للعمل بالأممالمتحدة، على خلفية تأييده موقف إسماعيل فهمى المعارض للسلام المصرى المنفرد مع إسرائيل. وفى العام نفسه طلب توم فرانك أستاذ القانون الدولى بجامعة نيويورك لدى توليه منصب مدير البحوث فى معهد الأممالمتحدة للتدريب والبحوث، من البرادعى العمل معه فى المعهد مسئولاً عن برنامج القانون الدولى، إعجابا بتفوق الأخير وسعة اطلاعه حين كان يدرس الدكتوراة هناك. وفى عام 1984 بدأ البرادعى رحلة عمل طويلة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، استمرت 25 عاما، عمل خلالها مديرا لمكتب الوكالة لدى الأممالمتحدةبنيويورك، ثم مديراً للشئون القانونية حيث أشرف على إبرام عدة إتفاقات مهمة تتعلق بالرقابة على الأسلحة النووية. وفى عام 1997، جرى انتخاب البرادعى، مديرا عاما للوكالة بالنمسا إثر ترشيحه من الدول الإفريقية، ليظل فى هذا المنصب لمدة 12 عاما أعيد خلالها انتخابه لفترة ثانية فى عام 2001، ولفترة ثالثة فى سبتمبر 2005. ومن أشهر المعارك التى خاضها البرادعى خلال عمله بالوكالة، رفضه توجيه إنذار إلى إيران فى نوفمبر 2004 لإفساح المجال أمام الوكالة لإنهاء تحقيقها فى الملف النووى الإيرانى، بالمخالفة للموقف الأمريكى الذى كان يسعى إلى إحالة الملف النووى لإيران لمجلس الأمن لفرض عقوبات اقتصادية عليها. وقامت أمريكا بالتجسس على الاتصالات الهاتفية التى أجراها البرادعى مع المسئولين الإيرانيين، فى محاولة للحصول على أدلة على أخطاء يمكن أن تستخدم ضده لإجباره على عدم الترشح مجددا لمنصب رئيس الوكالة. وبعد نجاحه فى التوصل إلى مذكرة تفاهم مع إيران فى أغسطس 2007 تقضى بمنح إيران مهلة ثلاثة أشهر للرد على التساؤلات التى تعكس قلق المجتمع الدولى من برنامجها النووى وتعهد إيران بالإجابة، شنت الإدارة الأمريكية وإسرائيل ووسائل إعلام مرتبطة بهما هجوما شرسا عليه، وزاد هذا الهجوم مع إعلان البرادعى فى تقرير له عن عدم وجود أى أدلة على حيازة إيران سلاحا نوويا. وفى عام 2003 وقف البرادعى ضد مخطط الرئيس الأمريكى جورج بوش لشن حرب على العراق تحت زعم امتلاكها أسلحة دمار شامل، وأعلن فى تقريره الذى قدمه لمجلس الأمن قبل الحرب بأيام عن عدم وجود دليل على امتلاك العراق لهذه الأسلحة، وحاول تعطيل آلة الحرب الأمريكية، بإعلانه أنه سيجرى المزيد من التحريات، إلا أن واشنطن ضربت بتقرير البرادعى عرض الحائط وذهبت إلى الحرب على العراق بالمخالفة للشرعية الدولية، بعدما أحبطت شهادة البرادعى استصدار قرار من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع لضرب العراق. وبعد انتهاء فترة عمله كمدير للوكالة، قررت الدول أعضاء بالوكالة منحه لقب "المدير العام الفخرى للوكالة الدولية للطاقة الذرية، بإجماع 150 دولة، تقديراً لما أبداه من إخلاص لأهداف الوكالة ومهامِها ولقضية السلام والأمن الدوليين خلال ولايته المتميزة والناجحة فى منصب المدير العام. وحصل البرادعى على 15 دكتوراة فخرية فى مجالات علمية متعددة من بينها القانون والعلوم السياسية والفيزياء، وفاز ب 27 جائزة دولية أبرزها جائزة نوبل للسلام العام 2005، تقديرا لدوره فى الحد من انتشار الأسلحة النووية فى العالم، وهى الجائزة التى وصفتها الصحافة العالمية بأنها ركلة فى وجه أمريكا، وفى عام 2010 تم اختياره ضمن قائمة أفضل مائة مفكر عالمى فى العالم، والتى نشرتها مجلة فورين بوليسى إذ جاء ترتيبه ال 20.