شاب في العشرين من عمره.. كان يدرس الهندسة المعمارية في جامعة بريطانيا آتاه ذات يوم من عام1990 نبأ صدمة وروعة, فقد داهمت أجهزة أمن مصرية شقة والده في القاهرة واعتقلته, ثم سرعان ما سلمته لأجهزة أمن الطاغية معمر القذافي, فيما يشير إلي تحالف الطغاة. وكان الرجل الذي تم اعتقاله يدعي جاب الله مطر, وهو ليبي, كان يخشي علي حياته من نظام القذافي, فهرب مع أسرته إلي مصر, وانضم لجبهة انقاذ ليبيا. وساورت الشاب هشام مطر الهواجس علي مصير والده, وعصفت به المخاوف عندما انقطعت أخباره منذ عام1995, وكان قبلها يسرب من سجنه رسائل إلي أسرته. واضطرب هشام اضطرابا عنيفا ترددت أنباء عن مذبحة وحشية ارتكبها جنود القذافي عام1996 في سجن أبوسليم فقد قتلوا رميا بالرصاص ألفا ومائتي معتقل, لأنهم طالبوا بمحاكمات عادلة, وظن أن والده قد قتل في تلك المذبحة. وتأجج غضبه علي الطاغية, وانفطر قلبه علي والده, غير أن بصيصا من الأمل داعبه, عندما رأي في نهاية النفق المظلم ضوءا شاحبا, فقد ذكر أحد المعتقلين أنه شاهد والده عام2002, وكان حيا يرزق, لكن هشام لم يتمكن من التأكد من صدق هذه الرواية. وبينما كان في غمرة أحزانه وعنفوان قلقه علي والده, وجد نفسه يكتب رواية باللغة الانجليزية سماها في بلد الرجال, وحكي في فصولها أطيافا من مأساة اختفاء والده, وربما أدهشه أن الرواية تم ترشيحها عام2006 للفوز بجائزة أدبية رفيعة, هي جائزة مان بوكر البريطانية. وقد فاجأ هشام الدوائر الثقافية في شهر مارس2011 بنشر روايته الثانية وعنوانها تشريح اختفاء فهو لايزال مهموما بمحاولة فك طلاسم لغز اختطاف والده, وقد حظت الرواية بشهرة واسعة لأنها صدرت وقت استمرار اشتعال ثورة17 فبراير في ليبيا. وهكذا عرف القاصي والداني وقائع من مأساة والد هشام, كان ضابطا بالجيش قبل اختطاف القذافي للسلطة في أول سبتمبر1969, وكان آنذاك ضمن البعثة الليبية في الأممالمتحدة, وظل يمارس مهام منصبه حتي قدم استقالته عام1973, عندما ضاق ذرعا بسياسات القذافي وممارساته. وعاد إلي ليبيا وعمل في التجارة, لكنه اضطر للهرب إلي القاهرة عندما رصد عملاء القذافي حركاته, توطئة لاعتقاله. }}} يقول هشام إنه منذ أن كان في الثامنة من عمره لم ير ليبيا, لكنه يتأهب بعد انفراط عقد نظام الطاغية للعودة إلي وطنه, وسوف يبحث عن الأب الذي اختفي في الدهاليز المعتمة لسجون القذافي. لقد أفلت هشام من براثن عالم الطاغية وخيمته الغريبة, فقد صار روائيا مرموقا, وذلك أن القذافي كان قد فرض حظرا علي المثقفين والأدباء, منذ أن نصب نفسه فيلسوفا علي الصفحات المهترئة بالأفكار للكتاب الأخضر, والأدهي أن عصبة من الكتاب والنقاد غالوا في امتداح عبقريته الإبداعية عندما نشر قصة بلهاء سماها الأرض.. الأرض. ولم يكن ممكنا وقد نصب الطاغية نفسه فيلسوفا وأديبا أن تزدهر الثقافة, وصار الانحطاط هو العنوان.. وتلك كانت ذروة مأساة ذاك الزمن العربي الحالك سواده واستبداده. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي