لعقود عدة, مثل الشعب الفلسطيني النموذج الأكثر حضورا للصمود بين الشعوب العربية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وعنوانا لإرادة المقاومة, خاصة من خلال انتفاضتين طويلتين. بل إن الفلسطينيين هم أول من قدم إلي العالم تعبير انتفاضة العربي. . حتي إن كلا من ثورة الشعب التونسي ضد زين العابدين بن علي, وثورة الشعب المصري ضد نظام مبارك, أطلق عليهما في أيامهما الأولي مسمي الانتفاضة وذلك في استلهام واضح للتجربة الفلسطينية. لكن المفارقة اليوم أنه بينما يضرب تسونامي الثورات الشعبية العديد من الساحات العربية, يبقي الفلسطينيون بالكاد مرئيين.. فخلال الشهور الثلاثة الماضية توارت القضية الفلسطينية, فيما ظل الشعب الفلسطيني بعيدا عن بؤرة التطورات الإقليمية. هذا في الوقت الذي يفترض فيه أن كل أسباب الثورة متوافرة في السياق الفلسطيني, فهناك انسداد مسار التسوية, واصطدامها بالعقبات الهائلة التي باتت تنسفها من أساسها بعد مرور عقدين من الزمن علي انطلاقتها منذ مؤتمر مدريد عام.1991 فضلا عن أن الفجوة القائمة بين الممارسة السياسية للمستويات القيادية في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وفي سلطتي الأمر الواقع في الضفة الغربيةوغزة وكل الحالة الفصائلية من جهة, وبين مطالب الشعب الفلسطيني من جهة أخري, لم تكن أكبر وأوضح مما هي عليه اليوم. ناهيك عن أن المشهد الفلسطيني الراهن تجتمع فيه كل مظاهر الجمود التي تستوجب الحراك من أجل التغيير, حيث: لا تسوية, لا مصالحة فلسطينية فلسطينية, لا سلام, لا مقاومة!! في ظل تلك المعطيات يثار التساؤل حول سر تأخر الشعب الفلسطيني عن غيره من الشعوب العربية, رغم أن القراءة الشعبية للثورات والهبات العربية يفترض أنها تنقل الفلسطينيين من الإلهام الفردي المستوحي من قدرة الفرد علي كسر حاجز الخوف, إلي الإلهام الجماعي المستوحي من قدرة الشعوب علي صنع التغيير. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلي بعض التحديات التي تواجه الحراك الشعبي الفلسطيني وتؤثر في مستوي تطوره وتأثيره, وذلك علي النحو التالي: 1- بعد اندلاع موجة الثورات العربية بداية العام الحالي, وما حققته من نجاح حتي الآن في كل من تونس ومصر, شهدت الساحة الفلسطينية نشاطا محموما علي الفيس بوك وغيره من أدوات التواصل الاجتماعي, لعشرات المجموعات الفلسطينية التي تريد تحريك الشباب الفلسطيني لإحداث التغيير المطلوب فلسطينيا. ولكن لوحظ تعدد وتباين شعارات المجموعات المختلفة, فمنها من دعت إلي إنهاء الاحتلال, أو إنهاء الانقسام, أو إنهاء أوسلو, أو لإجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني, أو للعصيان المدني لإسقاط سلطتي الأمر الواقع في غزة والضفة, أو لتنظيم مسيرات مليونية من أجل عودة اللاجئين الفلسطينيين... إلخ. هذا التباين والتعدد, الذي يعكس درجة عالية من الاختلاف بين الشباب الفلسطيني في الأولويات والرؤي والشعارات, لا يمكن إعتباره شرا مطلقا, بيد أن استمراره لفترة أطول من اللازم عبر الإستمرار في تشكيل المجموعات وتفريخ بعضها مجموعات جديدة بين فينة وأخري, أدي في نهاية الأمر إلي نتائج سلبية, أبرزها تفتيت جهود الآلاف الموزعين عليها, وبعثرة الدعوات إلي نقل الحراك من الواقع الافتراضي حيث شبكات التواصل الاجتماعي, إلي الواقع الفعلي حيث الشارع الفلسطيني, من خلال دعوات متعددة إلي تظاهرات سلمية ذات مواعيد مختلفة, وأهداف وشعارات متباينة. وفي هذا السياق ثمة من يشير إلي دور معاكس قامت به سلطتا غزة والضفة, عبر دفع مجموعات كبيرة من أتباعهما لإنشاء صفحات كثيرة علي الفيس بوك ذات أهداف وشعارات مختلفة حالت في الحاصل الأخير دون تشكيل الكتلة الحرجة فلسطينيا, الملتفة حول هدف مركزي. وعليه يمكن الإستنتاج أنه بينما شكل كل من فيس بوك وتويتر ووسائل التواصل الاجتماعي الجديدة أدوات فاعلة للمحتجين في عدة دول عربية, لتجاوز أجواء سلطاتهم القمعية وتنظيم نشاطات معارضة لم يسبق لها مثيل, لعبت نفس تلك الأدوات الإعلامية الجديدة دورا مختلفا في السياق الفلسطيني, حيث شكلت متنفسا للاحتقان بدلا من تعبئة الجماهير للثورة وإحداث التغيير المطلوب فلسطينيا.2- عندما تبين للقيادات الفلسطينية أن مسار الحوار الفلسطيني الداخلي, ومسار المصالحة الوطنية المنشودة, كان الأكثر تأثرا بالحدث المصري, وبدا أن شعار إنهاء الانقسام يستقطب كتلة شعبية أكثر من غيرها من الشعارات الأخري( وهو ما تجلي في تظاهرات يوم الخامس عشر من مارس الماضي في كل من الضفة وغزة) سارعت كل من حركة حماس وقيادة السلطة إلي المناورة وإستباق الأحداث, ومن هنا كانت دعوة إسماعيل هنية رئيس وزراء الحكومة المقالة في غزة, لرئيس السلطة محمود عباس لزيارة غزة من أجل تحقيق المصالحة. وهي الدعوة التي استجاب أبو مازن لها عبر إطلاق مبادرة تتضمن استعداده لزيارة غزة, وتشكيل حكومة من المستقلين تكون مهمتها بالأساس إعادة إعمار قطاع غزة, والتحضير لإجراء الانتخابات, لكن حتي الآن لم يحدث أي جديد. بل إن ما صدر بعد ذلك من قبل الطرفين يؤكد أنه لا توجد لدي حماس أو فتح الرغبة في التعاون إلا وفقا للشروط الخاصة بكل فريق. والشاهد أن الأولوية الآن ل حماس تتمثل في الترتيب ل أسطول الحرية2 في مايو القادم. بينما تبدو السلطة في رام الله منهمكة حتي النخاع في السعي الدبلوماسي للحصول علي المزيد من الإعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية قبل سبتمبر القادم. وهذا يعني في الحاصل الأخير أنه لا حديث عن المصالحة قبل استحقاقي مايو وسبتمبر القادمين. 3- أن ثمة رومانسية في دعوة الشباب الفلسطيني لإنهاء الانقسام, أكثر مما فيها من آليات تسمح بوضع حد له. ومصدر تلك الرومانسية في دعوة هؤلاء الشباب يكمن في الاعتقاد بأن شعار الشعب يريد إنهاء الانقسام كاف بحد ذاته لكي يصطف الجميع خلفه, بغض النظر عن خلفياتهم السياسية أو موقعهم من الانقسام. بالطبع هذا الإعتقاد يعود إلي الرغبة الصادقة لهؤلاء الشباب في استلهام تجربتي تونس ومصر, دون الانتباه لاختلاف هاتين الحالتين عن الحالة الفلسطينية. ففي مصر وتونس لم يكن رحيل النظام موضع خلاف بين الجمهور نفسه, بل كان محل خلاف بين الشعب الموحد في مطالبه لإسقاط النظام وبين نخب استولت علي السلطة ودافعت عن مصالحها خلال عقود, بقوة الأجهزة الأمنية وبدعم حلفاء خارجيين التقت مصالحهم مع مصالح هذه النخب. أما في الحالة الفلسطينية فالانقسام داخل الشعب ذاته.. إذ لا يوجد شعب موحد في مواجهة نخب بعينها, بل شعب منقسم علي نفسه, جزء منه يدعم السلطة في رام الله, والآخر يدعم السلطة في غزة. المقصد إذن أن الانقسام في الحالة الفلسطينية هو انقسام أفقي, داخل الجمهور وليس بين جماهير ونخبة أو نخب سياسية تحكم. والشاهد أن السلطتين, خصوصا سلطة الضفة, ترتبط بهما قطاعات واسعة جدا من الفلسطينيين من خلال رواتب الموظفين والإعانات الاجتماعية, ودعم الأسري وعائلات الشهداء, وتحريك عجلة الاقتصاد, بحيث أن ما لا يقل عن مليوني فلسطيني في الضفة وغزة مستفيدون مباشرة من السلطة هنا وهناك; مما يجعلهم يفكرون بروية قبل معارضتهما, لأنهم يمكن أن يخسروا مصدر دخلهم, فضلا عن التعرض للاعتقالات والتهديدات والمضايقات, فكيف يكون الحال بالثورة عليهما معا؟ إذن الصورة اليوم تبدو مغايرة تماما للأمس. فتاريخيا تزامن صعود الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة مع هبوط حركة التحرر الوطني العربية, بالذات عقب هزيمة يونيه عام1967, وما تلاها من ضربات موجعة تلقتها الحركة القومية والناصرية العربية. أما اليوم فالثورات التي تنبعث في العديد من الساحات العربية تأتي في ذورة تراجع وانقسام حركة التحرر الوطني الفلسطيني.