من إيجابيات المشهد الانتخابي الحالي تعاظم الاهتمام بأداء وسائل الإعلام الصحفية والتليفزيونية أثناء الحملة الانتخابية, وما يرتبط بذلك من لجان للمتابعة والمراقبة للكشف عن جدية الممارسة ونزاهة وموضوعية وسائل الإعلام أو انحرافها وتحيزها مع أو ضد أحد المتنافسين, سواء كان حزبا أو مرشحا مستقلا, ومع انتهاء الانتخابات تتسابق الجهات المعنية في إصدار تقاريرها التفصيلية عن حجم الاهتمام الممنوح للأطراف المتنافسة, ودرجة احترام أو انتهاك مواثيق الإعلام الانتخابي, والأمر كذلك يبدو الإعلام وكأنه الفاعل الرئيسي, أو علي الأقل أحد المؤثرات المهمة في تحديد قرار الناخب, سواء بالمشاركة من عدمها أو باختيار حزب أو مرشح بعينه. والواقع أن مكانة أو دور الإعلام في تحديد القرار الانتخابي يكاد يكون معدوما للدرجة التي تتضاءل معها جدوي اللجان المعنية بأداء الإعلام ومدي تحيزه أو موضوعيته, ويصبح من الأجدي البحث فيما إذا كان هناك دور يذكر للإعلام باختلاف توجيهاته, وأدواته وبرامجه في القرار النهائي للناخب, وأسباب انحسار أو انعدام هذا الدور. لم تتولد هذه القناعة من مجرد قراءة الواقع المعيش الذي يلمسه رجل الشارع البسيط, فالعصبيات والتحالفات العائلية والمجاملات الشخصية, والثقافة السياسية غير الناضجة جنبا إلي جنب الوسائل غير الشريفة وغير المشروعة أحيانا هي التي تحسم القرار الانتخابي للمواطن, وهذه العوامل في مجملها وتفاعلها معا تشكل الحضانة أو البيئة غير الصالحة التي يتولد عنها القرار الانتخابي, ويأتي تضخم هذه البيئة علي حساب تآكل وانكماش البيئة الصالحة لاتخاذ القرار التي تشمل المعرفة بالبرامج الحزبية والانتخابية, والقدرة علي الموازنة والترجيح فيما بينها, وتقييم الخبرة السابقة للأحزاب والمرشحين سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة, ودرجة ملاءمة البرامج المطروحة للظروف المحلية والدولية, ومدي واقعيتها وقابليتها للتطبيق, وغيرها من المتغيرات الرشيدة التي تجعل اختيار الناخب قرارا مسئولا قادرا علي التمييز بين الغث والسمين, وليس من شك في أن تمدد مساحة البيئة أو الحضانة غير الصالحة وانكماش ما عداها يأتي نتيجة لتجذر سمات الدولة التقليدية والمجتمع التقليدي, ومؤشر ناصع علي المسافة التي تفصل بيننا وبين الحداثة. هامشية دور الإعلام في تشكيل قرار الناخب لا يدعمه الواقع المعيش فقط, بل نتائج عشرات الدراسات التي أجريت علي عينات ممثلة للمجتمع المصري بريفه وحضره, بمتعلميه وأنصاف وأرباع متعلميه, عينات مثلت المستويات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة, وباختلافات طفيفة لا وزن لها فيما نطرحه الآن تكاد تكون النتيجة الحاسمة هي غياب العلاقة المؤكدة بين استخدام وسائل الإعلام المصري والقرار الانتخابي, وكأن أداء الإعلام في واد وما يتخذه الناخب من قرار في واد, آخر, خطان متوازيان لا يلتقيان ولا يتعانقان, وهذه معضلة كان من الأولي أن تحظي بالاهتمام من قبل الجهات المعنية قبل التفكير في تقييم أداء الإعلام, والكشف عن موضوعيته ومهنيته ودرجة توازنه ودقته. وهذا بالتأكيد ليس دعوة للانفلات الإعلامي أو التهوين من عمل اللجان المعنية بأداء الإعلام الانتخابي التي تمثل خطوة علي الطريق الصحيح, بقدر ما هو نداء لتوجيه الاهتمام إلي النظر في الأولويات, فانحسار مكانة الإعلام لدي الناخب يحمل في طياته هلامية وارتجالية القرار الانتخابي, وبعده عن الطابع القومي, والأساس المعرفي والثقافي الأوسع, كما أنه يدفع بالاعتبارات الشخصية والدسائس وشراء الذمم وسطوة المال إلي المقدمة, وهذا ما يحتاج إلي تحليل مجتمعي واسع يطرح علي العقل المصري واحدة من أهم قضاياه, ألا وهي الثقافة السياسية وموقع الإعلام منها, وكيفية الانتقال من مجتمع العصبيات إلي آخر يسوده العقل والعلم والأخلاق والمنافسة الشريفة. وربما يأتي الحديث عن هشاشة أو غياب دور الإعلام في القرار الانتخابي علي غير ما يتوقع الإعلاميون والصحفيون ودارسو الإعلام عن الموقع الاستراتيجي للإعلام في الحملة الانتخابية وفي تحديد مصير المرشح, وفي بناء الأجندة السياسية للهيئة الناخبة وأخيرا في تشكيل رأي الناخب واتجاهه وقراره, ولا خلاف علي صحة هذه المتوالية من العمليات في ظل إعلام يحافظ علي كيانه واستقلاله, ومكانته بما يجعله الملاذ الأول والأخير لدي الناخب, في تقييم المرشحين عبر مناظرات ومداولات جريئة ليس لها سقف سوي حق الناخب في المعرفة, وحق الصحفي في الحصول علي المعلومات وحق المرشح في الوصول للجمهور. ويثير تدني دور الإعلام المصري عددا من الإشكاليات تمس عصب البناء الاجتماعي والسياسي منها مدي ثقة الناخب في العملية الانتخابية, والإحساس بقيمة الصوت الانتخابي وجدوي المشاركة, ونظرته إلي القيمة المضافة للبرلمان في الحياة السياسية, وانعكاس مجمل نشاطه التشريعي والرقابي علي مستوي المشاكل الحياتية للمواطن, فهل نجح البرلمان في تسويق نفسه ودوره إلي الفلاح والعامل والحرفي والمهني, والمرأة الريفية, والشباب, والكهول, والمرضي, ورجال الأعمال, وأساتذة الجامعات والفنانين وغيرهم للدرجة التي تجعلهم حريصين علي المشاركة والدفاع عن حقهم في أن يكون لهم برلمان قوي يعكس آمالهم وطموحاتهم؟. الانتخابات البرلمانية في أي مجتمع هي عصب الحياة السياسية, وجوهر النظام الديمقراطي والنبع الذي تستقي منه النظم السياسية شرعيتها. وحيدة ونزاهة الانتخابات وحجم المشاركات رصيد يضاف ويحسب للسلطة القائمة, والحزب الذي يحكم. ولذلك فإن مسئولية الحزب الوطني كبيرة محليا ودوليا, ليس فقط لأنه حزب الأغلبية, وليس لأن خطابه السياسي أكثر تطورا عن ذي قبل, ولكن لأنه يحكم منذ أكثر من ثلاثين عاما, مسئولية الحزب ضخمة لا من أجل تحسين صورته أمام الرأي العام, فالأهم هو تحسين الواقع وبناء شرعية النظام التي تجد أصولها في شرعية الانتخابات, وهذه تقوم علي دعامتين: الأولي: أن يكون صوت الناخب المستنير هو ما يقرر الفائز من الخاسر, والثانية: أن يكون القضاء وحده هو من يفصل في أحقية العضو في البرلمان حال الطعن في صحة العضوية, وألا يصطدم ذلك بمبدأ المجلس سيد قراره.