ليس هناك أخطر علي حياة ومستقبل الأمم من الانقسام في الهوية والتعدد في الانتماء وغياب القاسم المشترك المتفق عليه من القيم والاجراءات والآليات الديمقراطية التي تنظم التنافس والصراع في المجتمع سواء كان مجاله السلطة أو الثروة أو هما معا, فالتاريخ القديم والحديث يشهد علي أن غياب نمط ديمقراطي من القيم والاجراءات كان مسئولا في حده الأدني عن حالات الاحباط وفقدان الثقة والتربص والاحتقان الطائفي والسياسي, والانعزال عن الحياة, وفي حده الاقصي عن الحروب الاهلية والتدخل الاجنبي وسقوط دول أخري محلها ذات هويات وانتماءات جديدة. والاحتقان الطائفي الراهن ليس نتيجة طبيعية لغياب الاتفاق علي الجانب القيمي والاجرائي للديمقراطية وأي معالجة لظواهر هذا الاحتقان بعيدا عن تحليل الواقع الاجتماعي والسياسي لايمثل قيمة مضافة لمنهج التعامل مع خطر جدير بالاهتمام. فالهند والولايات المتحدة وغيرهما من الأمم بثرائها اللغوي والعرقي والديني والاجتماعي لاتواجه مشاكل من هذا النوع الذي تواجهه الجماعة المصرية التي كانت ولاتزال أكثر شعوب الأرض تجانسا في التاريخ والعرق واللغة والدين, فاللغة واحدة, والتاريخ واحد, شارك في صنعه المواطن المصري مسلما كان أو مسيحيا والدين اسلاميا كان أو مسيحيا مصدره واحد وهو تعبير عن مشيئة الله وارادته في الارض ولو شاء الله لجعلنا أمة واحدة ذات قبلة واحدة وعبادات واحدة, ولكن الاصل هو التنوع والاعتراف به واجب, والتعامل معه مطلب الاهي لكم دينكم ولي دين والعدالة الإلهية صارمة وواضحة كالشمس ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به, وحرية العقيدة هي قدس الاقداس فلا إكراه في الدين ولو كانت العقيدة قائمة علي الاكراه لما كان هناك معني الحساب والجزاء ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا ولكنه لم يشأ تقديرا لمعني حرية العقيدة والحق في الاختيار واحترام إرادة الانسان الذي حمل الامانة وأبت أن تحملها السماوات والارض. والآيات بينات في إعطاء البشر حرية كاملة في اختيار دينهم فالمولي يقول إن نشأ ننزل عليهم من السماء أية فظلت أعناقهم لها خاضعينب ولكنه سبحانه قضت حكمته ومضت حجته البالغة علي ألا يكره احدا علي الخضوع له, لسبب بسيط أن عبادة العابدين لاتنفعه وكفر وانحراف المنحرفين لايضره. والامر كذلك يتضح أن الاحتقان الطائفي في حاجة الي البحث في الواقع الاجتماعي والسياسي المعاش وأعني به تحديدا قيم وإجراءات ومؤسسات الديمقراطية ومدي وجود مشروع قومي مستقبلي يتجه اليه المجتمع وفق جدول زمني توزع فيه الادوار علي اعضائه ويخضع لعملية تقييم دوري شفاف وفق مؤشرات علمية أضحت شائعة ومتعارفا عليها وليست في حاجة لمن يخترعها من جديد واذا كان البحث دائما يبدأ بتساؤل فإن الواقع الاجتماعي السياسي يثير التساؤلات, منها: هل نجحت الدولة المصرية في انتاج الديمقراطية بحيث يمكن لآلياتها إعادة انتاج نفسها بيسر وسهولة أم أن هذه العملية لاتزال بذرة أو فكرة لم تنبت بعد ؟ وهل نجحت الدولة المصرية في استيعاب ألوان الطيف السياسي وتمكين جميع المواطنين من حقوق المواطنة وإدماجهم في رسم مستقبل الحياة السياسية, والي أي مدي تنظر الدولة المصرية الي التنوع في الآراء والاختلاف في الاتجاهات والرؤي والسلوكيات باعتباره مصدر ثراء وإثراء يجب تشجيعه لا الحد منه أو ضبطه؟ الي أي مدي تؤمن الدولة المصرية بمحورية وجوهرية صوت الناخب في تحديد مستقبل الحياة السياسية, وهل اقتنع بذلك, ومامدي اتفاق الدولة والمواطن علي ضمانات نزاهة وحيدة هذه العملية؟ مع التسليم بأهمية خطوات الاصلاح السياسي منذ2005 إلا أن التساؤل يرتبط بمدي تكريس هذه الاصلاحات للسلطة أو توزيعها؟ مع التسليم باقتصاد السوق وحرية التجارة..مامدي قدرة الدولة علي تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير حد مقبول من العيش الكريم في حدود الدنيا والتحرر من الفاقة ضمانا للسلام الاجتماعي؟ ويرتبط بالتساؤلات السابقة الحقائق الآتية: أولا: إن الانتخابات الديمقراطية لاتضمن حكومات ديمقراطية ولكن الضامن الحقيقي هو الرأي العام المستنير الذي جاء بالحكومة والقادر علي محاسبتها والديمقراطية في التحليل الاخير ليست آليات ومؤسسات بقدر ماهي رأي عام واع علي ضمان حقوقه, ومراقب لأداء الحكومات وفي غياب هذه الحقيقية يصعب الحديث عن الديمقراطية في الأمدين القريب والبعيد. ثانيا: في الأوقات العصبية يصعب التنبؤ بالمستقبل وأي قدرة للتحكم مرهونة بما هو مرئي وملموس لا بما هو كامن وخفي من اتجاهات وقيم. ثالثا: الاحتقان الطائفي ليس إلا عرضا لمرض والمرض ليس طائفيا بقدر ماهو اجتماعي سياسي يعاني منه الجميع لاأقول عنصري الامة لان الامة ذات عنصر واحد في مركب ذي ماض وحاضر ومستقبل مشترك. رابعا: المبادرات الخارجية للتشخيص والاصلاح بما في ذلك أي محاولات للاستقواء بالخارج محاولات ميئوس منها محتومة بالفشل لأن طريق الاصلاح وعلاج الاحتقان لابد أن يتجذر في التربة المصرية ويحظي برضا المصريين ويشجع طموحاتهم لا أن يخدم أجندات خارجية. خامسا: الوضع الهش والهامشي لاحزاب المعارضة المصرية سوف يزداد هشاشة وهامشية اذا انعزلت عن المشاركة في الانتخابات وأثرت الاستكانة وتوقعت من يهدي اليها السلطة علي طبق من فضة. سادسا: الاحزاب الحاكمة في العالم انهارت من داخلها عندما قضت علي المعارضة من خارجها وعلي الحزب الحاكم في مصر إدراك حقيقة أن قوته مرهونة بقوة المعارضة وضعفة في ضعفها وانهياره في انهيارها وليس هناك من طريق للتغلب علي الاحتقان الطائفي بمعزل الديمقراطية.