للحديث عن الأزمة التي وصلت إليها اليمن اليوم، لابد من الحديث عن المدخلات التي أدت ما نحن عليه. لقد قامت ثورة سبتمبر 1962، وتبعتها ثورة أكتوبر 1963، وأصبحت اليمن بلدا مستقلا من ناحية ومجزءا من ناحية أخري. من البدء كان الكيان الجديد مجتمعا اُنبتت في نسيجه فسيفساء اجتماعية تتداخل مكوناتها المتنوعة، تتقاطع هنا وتتباين هناك. وكان للحرب الباردة دور في استمرار هذا التقاطع، فتعددت الولاءات الحزبية والمناطقية والقبلية والعشائرية. الوضع اليمني بيد أنه منذ نشوء الجمهورية، وما برح مشروع تأسيس الدولة في الشمال والجنوب يتعرض إلي ضغوطات سياسية خانقة مستمرة داخلية وخارجية، وتحديات ثقافية وأيديولوجية. ومن ثم غدت فرصة تكوين اليمن كدولة ينتظم سكانها أيديولوجيا، ثقافيا، ضمن ولاء أساسي لم تتم في أي عهد مضي. ومن هنا فإن المشكل السياسي الجذري لهذه البلاد هو بالأساس مشكل ضياع فرصة الاندماج السلمي لمكونات اجتماعية متنوعة، ظلت علي مدي عقود تحت عنوة القبيلة، المنطقة، العشيرة، والتي مثلت المناخ الطبيعي لوعي الفرد والجماعة. وانتظمت في إطار ذلك ولاءاتهم، وترتبت عبرها أنماط تفاعلاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وعلي ضوء ذلك احتدم الصراع علي النفوذ والجاه والموارد. تأسيسا علي ذلك، فقد غلب التفكك والكراهية المتبادلة والاقتصاد البنيوي للتجانس علي وجود النخب السياسية التي تداولت فكرة المشروع الوطني، وفشلت هذه النخب التي كانت تصوغ طموحاتها وفق منطق مفاده أن جزءا من التكوين السياسي ينبغي أن يكون من حقها. وبعد قيام الوحدة بين الشمال والجنوب في 22 مايو 1990 كان ضروريا استيعاب جل المكونات في جهازها الإداري والسياسي والتنفيذي. وفي هذه المحصلة تم ضخ عدد كبير من العسكريين والمدنيين إلي جهاز الدولة، ليضيف أعباءً أخري ضاعفت من حجم المشكلة. وبعد حرب 1994 اختلت موازين القوي وظهر شركاء جدد، فكان لابد من منحهم الملكية الخاصة علي الأرض وموارد الإنتاج كثمن لابد من دفعه لعملية الاندماج الجديدة، هذا يعني أن الدولة أقرت علنا بوجود قوي أخري خارجها. وفي الجوهر كانت تجري عملية خصخصة الثروة الاقتصادية للكيان الجديد كثمن لقيام شرعية الدولة الجديدة. جاءت الوحدة ومعها التعددية السياسية والديمقراطية التي ولدت بطريقة نخبوية، ولم ترتبط بتحقيق تغيير اجتماعي يفضي إلي نظام سياسي ديمقراطي. نحن نعلم أن الديمقراطية في الغرب نشأت عن طريق تطورات تاريخية طويلة الأمد، اقتصادية، وسياسية، وفكرية. إننا في بلد لم يخلق شروط تنمية الديمقراطية داخليا، لذلك من الصعوبة بمكان تصور حدوث تطورات إيجابية علي زرع الديمقراطية في بلاد لم ينتج بعد حاضنات سياسية اجتماعية فاعلة، ومتنامية لجعل قيم الديمقراطية تترعرع بسرعة وبدون وعي اجتماعي عميق بضرورتها، وبدون تطور أطرها الداخلية الثقافية والسياسية. أوضاع سيئة إن غياب التقاليد الديمقراطية السياسية أدي بالضرورة إلي الخصام والاختلاف والمواجهات الحادة. فنحن نعاني من خراب هائل في البنية الذهنية الثقافية والسياسية. فعلي سبيل المثال، تعاني هياكلنا المدنية حالة رثة حيث يفتقد أكثر من 10 ملايين لمياه الشرب النقية، وأصبحت أكثر من 70% من المدارس بحاجة إلي إصلاح شامل، وبلغت الأمية أكثر من 68% والبطالة لا تقل عن 35%، وهناك ما يقرب من 52% يعيشون تحت خط الفقر. هذا الوضع ساهمت فيه كل القوي السياسية، فقد ذهبت جميعها للبحث عن ولاءات وتحالفات قبلية، مناطقية، جهوية، وتقليدية. وبذلك حاصرت عملية الاندماج الوطني وساعدت علي تشظي الهوية، وجعلت أغلبية مكونات المجتمع اليمني تدخل حالة اغتراب مستطيلة مع الدولة اليمنية. احتياجات اليمن يحتاج اليمن إلي ترشيد الصراع وتحويله من صراع علي السلطة إلي صراع علي وظائف السلطة، يحتاج إلي عدالة اجتماعية، وقانون تتساوي كل الرؤوس عنده. للأسف في ظل الصراع القائم، جرد معظم اليمنيين من حقوقهم المدنية، وغابت دولة القانون، وسيطرت مراكز القوي علي منافذ الدولة ومواردها عبر شبكات الرعاية العائلية والعشائرية والوساطة والمحاباة والقرب من أصحاب السلطة، كل هذا قاد الناس مجددا، وعلي نطاق هائل الاتساع، إلي الارتماء في أحضان القبيلة والطائفة، والتعصب المناطقي والمذهبي، ودمر الشروط الأولية للاندماج الوطني. ونتيجة لعدم وجود قراءة تشخيصية للواقع اليمني، فإن كل طرف يقدم مبادرة دون أن تتكامل هذه المبادرات، مما يجعلها عنصر إعاقة أكثر منه عنصرا للحل. فهناك من يطرح فكرة الفيدرالية، وآخر يطرح كونفيدرالية، وثالث حكما محليا واسع الصلاحيات..الخ. فمثلا فكرة القائمة النسبية في وضع كاليمن تعد خطيرة لأن المجتمع اليمني يتسم بالتعدد الاجتماعي ويتسم بتداخل الانقسامات السياسية مع الانقسامات الاجتماعية، المناطقية، لذلك نحن نحتاج لدرجة معينة من الضمانات المشتركة السابقة للانتخابات، لأن ذلك يمثل ضرورة للاستقرار السياسي. لعل بعض القوي السياسية أخذت تعي أهمية آفاق عملية تشكيل تحالفات سياسية، لكنها تنظر للتغير من زاويتها فقط، دون مراعاة التركيبة الاجتماعية والسياسية. ولم تقم هذه التحالفات علي استراتيجية ثابتة طويلة الأمد، بل قامت علي أساس تكتيكي مرحلي. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم تسع هذه القوي السياسية إلي انتزاع سياقات وصيرورة ولادة وتمدد دولة القانون وحقوق الإنسان من براثن الاستقطابات العشائرية والدينية، لتخلق هوية وطنية جديدة؟ والإجابة واضحة علي الأرض، وهي أن فاقد الشيء لا يعطيه، لذلك لم تستطع هذه القوي أن تقدم إجابة عقلانية مستمدة من صلب دولة القانون الوطنية التي تخدم حقوق الإنسان وبالتالي كانت النتيجة هذه النزاعات والحروب الأهلية. وهناك القوي الظلامية داخل البلاد وخارجها تنتظر بفارغ الصبر، أن تعمل علي تحويل اليمن إلي مستنقع إرهابي دولي. الفكرة الوطنية من أجل الذهاب إلي المستقبل لابد من التخلص من الخلط بين التاريخ والجغرافيا، ومن المفترض ألا يجري تحويل التاريخ إلي جزء من الوطنية الضيقة، كما أنه لا معني لتحويله إلي جزء من اللعبة السياسية، لأنه سوف يعرض ممثليه وأتباعهم إلي مأزق مأسوي فحصر الرؤية الوطنية في مطالبها في فترة زمنية، ضمن تاريخ ما بعد الوحدة سوي الصيغة الضيقة والوهمية لإقناع النفس بموقع افضل، أو حقوق أكثر مقارنة بالآخرين. الذين ينادون بفك الارتباط أو الانفصال، أو عودة الملكية، يعبرون عن هذه الرؤي الضيقة والوهمية، في نفس الوقت فهي رؤي لمن لا يفقه في تاريخ الدولة شيئا. فلماذا العودة قبل 22 مايو بالذات، وليس ما قبل 67؟ أو قبل ذلك عندما كانت الجنوب مجموعة سلطانات. إن حصر التاريخ بفكرة الزمن وبلورة مواقف ومطالب متعلقة بالأرض فإنه سوف يرفع فكرة الزمن إلي تاريخ مقدس، مما يجعل منه أمرا غير شرعي، وسيجعل الكثيرين يطالبون بالعودة إلي فكرة السلطانات. كما أن الدعوة إلي عودة تيار سياسي معين يفتح الباب لعودة تيار آخر وهكذا. بمعني أن إسقاط التاريخ علي الجغرافيا يجعلنا أمام رؤية دموية وهمجية، من حيث بواعثها وغاياتها. إذن يفترض أن يسعي الجميع لتأسيس وتجسيد حقيقة الانتماء للدولة الواحدة والهوية الوطنية الواحدة بوصفها هوية تاريخية ثقافية. وهنا لابد من العمل من أجل غرس حقيقة الانتماء الوطني ضمن معايير العمل وحقيقة المبدأ المعلن والبنية القائمة وراءه وليس بمقاييس الأعوام والسنين. يتحدد المستقبل بمدي الاستجابة لدعوة رئيس الجمهورية للحوار، عقب قرار وقف الحرب، وحضور جميع الأطراف بهدف بلورة أنماط مختلفة من التضامن المستند إلي مقومات وركائز تهدف إلي تنمية ما هو مشترك بين هذه الأطراف. وبخلاف ذلك فإننا نزرع حالة الشك وعدم اليقين في العلاقة بين النظام السياسي والقوي الاجتماعية ونجعل الصراع السياسي عدائيا، مما ينعكس سلبا علي مسيرة التحول الديمقراطي. قد تثير هذه الصورة التي ذكرناها شيئا من التشاؤم، وربما اليأس، لكن تشاؤم الواقع بكل مأساويته لا يمنع من القول مع أنطونيو جرامشي: إنه لا يلغي تفاؤل الإرادة، خصوصا في ظل وقف الحوار والقبول المبدئي للحوار.