خلال عشرة أيام, لا أكثر, وهي فترة زمنية لاتحتمل إجراء أو حدوث تغيرات اقتصادية هيكلية كبيرة, نشرت الصحف الأمريكية خبرين ظلا يحملان دلالات متناقضة بالرغم من تنافسهما الشديد مع نظام رأسمالي يقول إنه يقود كل اقتصاديات العالم, وبالفعل يقوده, نظام اقتصادي. يتمكن الفكر الرأسمالي منه ومن كل خلاياه ووحداته من أصغرها إلي أكبرها سواء كانت هذه الوحدات اقتصادية أو ثقافية أو سياسية. أعلن الخبر الأول في زفة إعلامية أمريكية مصورة نشرت علي الصحف والفضائيات ومواقع شبكة المعلومات. وكان الخبر عن تبرع40 مليارديرا أمريكيا بالنصف من ثرواتهم لمصلحة الفقراء من الأمريكيين, ولا مانع من توجيه جزء من هذه التبرعات للفقراء من غير الامريكيين. وأعلن أن المبلغ الذي تم التبرع به يصل الي600 مليون دولارا أمريكيا وهو مبلغ مشكوك في مصداقيته قيل أن المبلغ سيعود بأغلبه الي منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال الاغاثة ومواجهة الأزمات. تم الترحيب بالخبر في الولاياتالمتحدةالأمريكية بالطبع كذلك في خارجها أيضا, كما تم تناوله علي أساس أنه النموذج للرأسمالية الناضجة التي تعرف مسئولياتها الاجتماعية تجاه شعبها لدرجة أنها تتقاسم فوائضها و أرباحها وثرواتها مع الفقراء!! أما الخبر الثاني فقد أعلن بعيدا عن الزفات الإعلامية المصورة التي تشد الانتباه بالرغم من أنه من النوع الذي يثير الزوابع. جاء الخبر ليؤكد أن خلال عامي2008 و2009 أي فترة احتدام الأزمة المالية التي بدأت في الولاياتالمتحدة وأثرت علي كل بلدان العالم, وهي الأزمة التي تراجعت فيها معدلات النمو الاقتصادي علي المستويين العالمي والوطني فيما عدا في دولتين هما الهند والصين, وارتفعت فيها معدلات البطالة في غالية الدول حققت فيها500 شركة إنتاجية في الولاياتالمتحدةالامريكية أرباحا تصل إلي1,3 تريليون دولار أمريكي, ولكن بالرغم من ضخامة كل هذه الأرباح إلا أنها, أي هذه الشركات, لم تترجم أرباحها هذه الي استثمارات تقدم فرص عمل تستوعب جانبا من نسبة البطالة التي ارتفعت عن معدلاتها الطبيعية في الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية لتقترب من نسبة ال10% فالازمة المالية العالمية التي بدأت بعنف في نهاية2008 أي نهاية ولاية جورج دابليو بوش ولا تزال مستمرة إلي الآن وربما تمتد إلي الغد البعيد نسبيا لم نكن كلنا من ضحاياها بل كان من بيننا من استفاد منها استفادة كبري. كان المستفيدون هم أقلية الأقلية بينما استمرت الغالبية تناطح البطالة وتراجع مستويات معيشتها. ولكن ظلت نسبة الفقراء في كل مكان تعيش في دائرة الفقر الذي لايرحم. والحق يقال أن الرأسمالية الأمريكية الكبيرة كانت منذ أكثر من قرن من الزمان تستقطع جانبا من أرباحها لتوفي به مانسميه الآن بالالتزامات الاجتماعية لرأس المال وذلك بالتبرع لتأسيس مراكز ابحاث تحمل أسماء مؤسسي العديد من الصناعات الهامة كالسيارات أو الحديد والصلب أو البترول, أو لإنشاء واستمرار جامعات عريقة كجامعة هارفرد وغيرها أو لمنظمات المجتمع المدني شديدة التنوع والانتشار وذات فاعلية ملحوظة في عموم الولايات وكانت تضمن لمراكز الأبحاث والجامعات وقفيات أو ودائع بنكية والتي يطلقون عليها عبارةendowments تسمح لاستمرارية هذه المراكز وتلك الجامعات. فجامعة هارفرد مثلا تملك وديعة تزيد في قيمتها علي28 مليار دولار أمريكي جمعتها من تبرعات الرأسمالية ومن الأفراد. وهي الوديعة التي سمحت لها بأن تخصص نسبة40% من مقاعدها الدراسية للمتفوقين من تلاميذ المرحلة الثانوية غير القادرين علي مواجهة تكاليف الدراسة فيها ولكنهم راغبون في الالتحاق بها. كما أن منظمات المجتمع المدني المنتشرة في كل ولاية وكل مدينة وحتي مستوي الريف الأمريكي الواسع والريف الأمريكي له تركيبته وسماته الاجتماعية الخاصة غير المتوافرة في أوروبا مثلا أو حتي في بلاد كبلادنا بسبب ظروف نشأة الدولة ذاتها علي يد50 مليون مهاجر أنجلو سكسوني أوروبي استولوا علي الأرض من السكان الأصليين بلا رابط ولا ضابط وتعمل هذه المنظمات بحرية كاملة في إطار مليارات الدولارات السنوية التي تجمعها من زصحاب الأعمار الكبار والمتوسطين, ومن الأفراد, وهي التبرعات التي يتم إنفاقها تحت رقابة مالية محكمة من داخلها وأمام أجهزة الرقابة المحلية. وتملك الولاياتالمتحدةالأمريكية نظاما ماليا يسمح بخصم هذه التبرعات المعلنة والمسجلة ورقيا من الوعاء الضريبي سواء للأفراد أو للاستثمارات. هكذا تبدو الأمور مثالية. ولكن أحيانا لابد من مناقشة حقيقية هذه المثالية. ونأخذ مثالا لشركة أمريكية نمت خلال العشرين عاما الماضية وتحولت خلال هذه الفترة الوجيزة من مشروع تجاري صغير من مدينة سياتل في أقصي الشمال الغربي الأمريكي ليصبح لها فروع في كل الولايات والمدن الأمريكية ثم في غالبية بلدان العالم ومنها البلدان العربية. بدأ كمشروع صغير لبيع القهوة ذات النكهة الجديدة. ولاقت هذه النكهة الجديدة قبولا لدي الأمريكيين الذين يعشقون شرب القهوة. ومع الانتشار الداخلي ثم الخارجي. وبدأ المشروع يتوسع في نشاطه ويمتد الي استيراد أنواع محددة من حبوب البن من بلدان أمريكا الجنوبية. ومع الانتشار الأكبر بدأ يفرض علي مزارعي البلدان المنتجة لحبوب البن أنواعا معينة لايستطيعون بيعها إلا لهذا المشروع, فتحول مشروع القهوة ذات النكهة الجديدة الي كيان احتكاري يفرض أسعاره علي المزارعين فزاد إفقار مزارعي حبوب البن في البلاد الأمريكية الجنوبية المصدرة لحبوب البن. وتركز الافقار تحديدا في صفوف صغار المزارعين. هذه الشركة تحديدا تخصم سنتا من كل دولار تكسبه لتتبرع به لاسرائيل. ولكي تبيض وجهها أمام فقراء مزارعين البن ونقادها من الجمهور الأمريكي الواعي تتبرع بعدد من الملايين لمنظمات المجتمع الأمريكي ولعدد من المنظمات العالمية العاملة في مجالات تطوير التعليم وتوفير مياه الشرب النقية في بعض البلدان النامية وتحديدا في تلك البلدان التي احتكرت البن فيها. فالتبرعات الرأسمالية وتحديدا الأمريكية مفيدة في التخفيف من حدة الفقر ولكنها لاتلغي الفقر الذي تنتجه علاقاتها. المزيد من مقالات أمينة شفيق