لم يكن أكثر المتفائلين يحلم قبل خمسة عشر عاما, أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه تركيا الأتاتوركية نصيرا قويا للقضايا العربية وبالذات لحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة والاستقلال ونصيرا للحقوق الإنسانية عامة وللعدالة في العلاقات الدولية علي النحو الذي تفعله تركيا في ظل حكم أردوغان في الوقت الراهن. بعد أن ظلت لأكثر من ستة عقود, نصيرا قويا لإسرائيل علي جميع الأصعدة في إطار علاقاتها القوية والشاملة مع الغرب وعضويتها في حلف شمال الأطلنطي, بما أكمل الصورة الرديئة للدولة العثمانية في الذهنية العربية بعد احتلال عثماني شنيع للعالم العربي كله تقريبا لما يقرب من أربعة قرون. لكن التغير حصل بصورة دراماتيكية منذ صعود نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه الإسلامي للحكم في تسعينيات القرن الماضي, حيث واجه تعنت أوروبا ورفضها انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي, بالاتجاه جنوبا وشرقا نحو العالمين العربي والإسلامي. ورغم وأد تجربة أربكان في نهاية التسعينيات, إلا أن الشعب التركي الذي أتي به للحكم, كان مستعدا في عام2002 لأن يأتي بحزب آخر من نفس الاتجاه وبأغلبية كبيرة هو حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان, وأن يعيد انتخابه مرة أخري مما منحه تفويضا قويا يصعب علي البيروقراطية العسكرية والأمنية التركية التقليدية تجاهله وإلا قامرت باستقرار تركيا كليا في ظل الشعبية الكاسحة لأردوغان وحزبه, وفي ظل التزامها بالمعايير الديمقراطية الأوروبية في إطار مساعيها للانضمام للاتحاد الأوروبي, وفي ظل تأكيد أردوغان التزامه بالنظام العلماني التركي واحترامه فعليا في الممارسة العملية, بما أبطل حجة رئيسية استخدمت في الإطاحة بنجم الدين أربكان. وفي ظل هذه الشروط تمكن أردوغان من التعبير عن مواقف شعبه وعن روح تركيا الحقيقية التي اختارته, وشكل موقف تركيا وأحرار العالم الذين شاركوا في قافلة الحرية واستشهد9 أبطال منهم, عاملا حاسما في التغير الجوهري الذي طرأ علي الموقف العالمي والغربي بالذات, من الحصار الصهيوني الإجرامي للشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة, بعد أيام من مكافأة الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة لإسرائيل بمنحها العضوية الكاملة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية, مسفرة للمرة الألف عن الوجه الحقيقي والدنيء للرأسمالية الغربية الداعمة للكيان الصهيوني الذي نشأ بالاغتصاب ويستمر بالعدوان. وحتي بعد مجزرة البحر المتوسط التي ارتكبتها إسرائيل, استمرت الإدارة الأمريكية في حمايتها من أي قرار أو تحقيق دوليين بما يجعل مقاطعتهما اقتصاديا, عقابا شعبيا عادلا. واستمرت غالبية الحكومات الأوروبية متسامحة مع الفاشية الصهيونية مع مطالبة خجولة برفع الحصار, ووحدهم أنصار حقوق الانسان واليسار الأوروبي هم من نظم التظاهرات في غالبية البلدان الأوروبية للتنديد بالمجزرة وبالتواطؤ الرسمي الغربي معها. وبالطبع فإن أي مقارنة للمواقف ستوضح أن أشقاء وأصدقاء العرب هم تركيا أردوغان والبلدان الإسلامية واليسار اللاتيني والأوروبي والقوي الحية في الغرب عموما وروسيا وإلي حد ما الصين والهند, وأن أعداءنا الممثلين في الإدارة الأمريكية الحامية لإسرائيل والرأسمالية الغربية المسيطرة هي وممثليها علي مقاليد الحكم في غالبية دول أوروبا. وعلينا أن ننتصر لأصدقائنا ونمحو الصورة الرديئة والحقيقية للأسف عن العرب بأنهم غير أوفياء لأصدقائهم, والتي يعد مثلها الأكبر هو خذلان العرب للاتحاد السوفيتي السابق ومساهمتهم في حصاره وإسقاطه بعدم سداد ديونهم له(85 مليار دولار) في وقت كان في أمس الحاجة إليها, بينما قاموا بإنعاش الصناعات الغربية باستهلاك منتجاتها. وللعلم فإن الاقتصاد التركي القائم علي إنتاج السلع الصناعية والزراعية والخدمات والناهض علي أساس العمل والعلم يحتل المرتبة الأولي بين اقتصادات المنطقة العربية وجيرانها, أصبح أكثر حيوية وأسرع تطورا من الاقتصادات القائمة علي ريع ثروة ناضبة كما هو الحال في دول الخليج وإلي حد كبير في إيران. وقد بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي لكل من تركيا والسعودية وإيران ومصر بالترتيب, نحو162.8,385.1,467.6,794.2 مليار دولار عام2008. ومن ناحية أخري, فإن تركيا التي كانت مستقبلا صغيرا للاستثمارات الأجنبية المباشرة حتي نهاية القرن الماضي, نجحت في التحول لدولة كبيرة في هذا الصدد واستقبلت خلال الأعوام2008,2007,2006 ما مجموعه60.4 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة, بفضل نجاحاتها الاقتصادية التي أغرت الشركات الكبري لضخ استثمارات إليها بغية تحقيق الأرباح من الوجود في السوق التركية الكبيرة والاستفادة من الميزات الموجودة فيها. ومن المؤكد أن هذه الدولة التي أصبحت مناصرة لقضايانا العربية, تستحق أن نكافئها بتفضيل ضخ الاستثمارات المباشرة إليها علما بأن الاستثمارات المباشرة التي ضختها الدول العربية للخارج بلغت نحو40 مليار دولار عام2008, كما تستحق تركيا أن نكافئها بتفضيل السلع التي تصدرها, وأيضا الخدمات وعلي رأسها الخدمات السياحية, خاصة أن عدد السياح العرب الذين يخرجون للسياحة خارج بلدانهم يبلغ نحو33 مليون سائح, وتبلغ مدفوعاتهم السياحية نحو60 مليار دولار في العام. باختصار علينا أن نتعلم كيف نكون أصدقاء أصدقائنا وأن نتبادل المنافع معهم بشكل عادل ومتوازن وأن ننتصر لأصدقائنا الأتراك بتفضيل استهلاك سلعهم وخدماتهم عن كل ما عداها علي أسس اقتصادية, وبالتعامل بصورة راقية تنطوي علي تقدير وامتنان حقيقيين لكل القوي الحية في الغرب والعالم ورموزها الأخلاقية الكبيرة.