في مرحلة دقيقة تعيد فيها مصر ترتيب أوراقها وإعادة هندسة توجهاتها وأولوياتها; نحتاج إلي تأكيد أن أسس الإدارة السليمة سياسيا واقتصاديا تستلزم أن تسبق الرؤية المتكاملة التحرك الجزئي وأن يسبق رسم الخطوط العامة الإستراتيجية المشاريع التكتيكية. وهذه القاعدة تحديدا هي المشكلة الأهم والأضخم التي تعترض طريقنا عند تناول قرض صندوق النقد الدولي بين القبول والرفض. فلنسأل إذن صناع القرار عن ماهية الرؤية الاقتصادية المتكاملة التي تجعلنا نسلم بالاقتراض كإحدي سياساتها الجزئية; هذا فضلا عن أن يكون الاقتراض من جهة سياسية دولية بحجم صندوق النقد الدولي; فلن يعنيني كثيرا أن تكون الخطوة نفسها صحيحة إذا ما كنا نتكلم عن رؤية خاطئة أو عن غياب رؤية بالكلية. وحقيقة فإن حديثنا عن ضبابية المشهد الإستراتيجي يقودنا تلقائيا لتناول بعد نقص المعلومات الأساسية, أو ما يمكن أن نسميه غياب الشفافية في معرفة شروط القرض وتبعاته السياسية والاقتصادية; ناهيك عن أن الحكومة حتي هذه اللحظة لم تفصح بشكل كامل ودقيق عن الوضع الاقتصادي للبلاد, بما في ذلك حجم الاحتياطي الأجنبي بدقة, وحجم العجز في الموازنة وغير ذلك. وأعتقد أن توافر الشفافية في معرفة شروط القرض وتفهم آسباب الإقدام عليه عنصران أساسيان بإمكاننا أن نبني عليهما اقتراحا أوليا استفدته مباشرة من تجربة مهاتير محمد الرائدة أواخر تسعينيات القرن المنصرم إبان أزمة طاحنة كادت تعصف ببلاده. كانت ماليزيا وقتها قد عزمت علي رفض قرض صندوق النقد في سابقة عالمية شرحها بالتفصيل كثيرون قبلي; فلن أعيد هنا سرد ما سودت به صفحات; إنما من أبرز ما لفت نظري في هذه التجربة تشكيل مهاتير محمد لمجلس قومي يضم أكبر المستثمرين ورجال الأعمال والاقتصاديين علي مختلف انتماءاتهم; وعقد المجلس لعامين كاملين جلسات يومية تمتد لساعات حتي استطاع استنهاض ماليزيا من كبوتها; فلا يمكن في قرار يؤثر علي مستقبل البلاد سياسيا و اقتصاديا أن تنفرد به وجهة نظر واحدة أيا كانت براعة صاحبها. وقريب من ذلك ما اقترحه بتدشين ورش عمل Workshops مجمعة لخبراء الاقتصاد المصريين في الداخل والخارج من جميع المدارس الاقتصادية إسلامية كانت أو رأسمالية أو يسارية; نجمع بها شتات الآراء القيمة التي تخرج هنا وهناك والتي يمكن أن تثمر كثيرا من الحلول المبتكرة نخرج بها من رحم التصورات النمطية الضيقة لأزمة السيولة والتمويل التي نواجهها أو علي أقل تقدير تشكل تصورا متكاملا يستعين به صانع القرار السياسي قبل اتخاذ قراره; بدلا من إصرار البعض علي أنه لا بديل عن اتخاذ هذه الخطوة مستخدما لغة ليس في الإمكان أفضل مما كان! أما حديث البعض عن تغير سياسات صندوق النقد الدولي بعد الكارثة المالية العالمية في العام 2008 عن ذي قبل فأمر لا نسلم به; لأن القاعدة التي لا يمكن أن تتغير هي أن القرض عبء علي أي دولة, إما في صورة التزام مالي, أو في صورة تكبيل للقرار السياسي, وهذه أشد خطورة; أضف إلي ذلك أن وضعنا الحالي لا يسمح لنا بالرهان علي حسن نوايا الآخرين! صحيح أن الموافقة علي قرض البنك الدولي له مردود إيجابي علي رفع تصنيف مصر الائتماني مما يعني تعاظم الثقة عالميا في اقتصادها و من ثم جذب استثمارات أكبر; لكن من قال إن هذا هو السبيل الوحيد ؟ هذه صورة نمطية أخري للتفكير; يمكن أن يكسر تقليديتها دور متميز تلعبه الدبلوماسية المصرية في الفترة المقبلة تطرق به أبوابا لم تطرق من قبل, وتبني علاقات خارجية استراتيجية جديدة; وانظر علي سبيل المثال إلي تصريح عمرو حسنين رئيس مؤسسة الشرق الأوسط للتصنيف الائتماني المنشور بجريدة الأهرام بعد زيارة الرئيس مرسي إلي الصين بتاريخ 30 أغسطس الماضي حيث أكد أن: مؤسسات التصنيف العالمية تراقب تحركات الرؤساء, وما يتمخض عنها من توقيع اتفاقات لجذب استثمارات فعلية, وزيارة الرئيس مرسي للصين تبعث برسالة قوية للعالم أن النظام المصري الجديد يسعي لتعزيز علاقاته مع القوي الاقتصادية العالمية بعيدا عن أي أيديولوجيات. مازلت مهتما بالتركيز علي الخطوط العريضة لاقتناعي أنه لا يمكن لمقالة أو حتي لسلسلة مقالات أن تقدم حلولا جاهزة لكن لا بأس بالإشارة إلي بعض البدائل التي تستحق تفكيرا ودراسة وأحدها هو فتح الباب لتمويل مشاريع البنية التحتية بنظام الBOT مع شرط التنمية المستدامة sustainabledevelopment التي تضمن المحافظة علي أصول الدولة وحقوق شعبها; وربما يكون الاكتتاب الشعبي لمصريي الخارج لضخ سيولة من العملة الأجنبية حلا آخر. المزيد من مقالات نادر بكار