ثلاثة أنباء تواترت في الفترة الأخيرة, كانت كافية ودافعة لضرورة التمعن فيما فعلنا بأنفسنا التي هانت علينا, فهنا علي الآخرين. والحديث هنا لا ينصب علي مصر, والانعكاسات الاقتصادية والسياسية التي ترتبت علي ثورة 25 يناير فقط, ولكن علي العالم العربي بكامله, فيبدو أن المرض قد استشري, والحسابات الواقعية قد أسقطت من الاعتبار, فأصبح الجميع ابتداء من الفرد إلي المجتمع بكامله, يعيش في حالة من أحلام اليقظة التي طالت, ولم يدعمها عمل, ولا خطة, وإنما مجرد جزر متناثرة بين الفرد والآخر, والدولة والأخري, سواء تحت شعار أنا غضبان, أو أنا مبسوطة كده أو سأعود سأنتقم. أولا: هذه الأنباء تتعلق بالتخفيض الأخير للجدارة الائتمانية للاقتصاد المصري من قبل مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية, حيث أصبحت مصر في دائرة المخاطر, مع نظرة سلبية للتوقعات المستقبلية للاقتصاد نتيجة زيادة واتساع نطاق التوترات السياسية, والمطالب الاقتصادية في مواجهة الحكومة وضدها, مما يعني في حالة الاستجابة لها مزيدا من التآكل في أداء الاقتصاد المصري, وتعاظم العجز في الموازنة العامة. لكن هل هناك تجاوز من جانب هذه المؤسسات, أو تحامل علي أوضاعنا السياسية وانعكاساتها الاقتصادية؟ الأرقام تشير إلي أن احتياطينا من العملات الأجنبية انكمش إلي 18.110 مليار دولار في ديسمبر 2011, وأن عدد أشهر الواردات السلعية التي يغطيها هذا الاحتياطي الصافي لا يتجاوز3.7 شهر طبقا للأرقام الخاصة بشهر ديسمبر2011, وإذا أخذنا في الاعتبار التطورات التي تلت هذه الفترة, لا يبدو الوضع في الاتجاه الصحيح, وإنما مزيد من التقلبات والمعارك السياسية والحزبية, التي تدفع بالاقتصاد إلي مزيد من التدهور في الأداء, لضيق النظرة الاقتصادية, وبعدها عن الرؤية البانورامية. كما قفزت المديونية الخارجية إلي ما يقرب من 34 مليار دولار, وكذلك إجمالي الدين المحلي, فأصبحت أعباء خدمة الدين تقدر ب13% من الناتج المحلي الإجمالي, ونسبة الدين المحلي إلي هذا الناتج تعادل 70% تقريبا خلال الربع الأول من العام المالي 2011/2012, فإذا كان الوضع كذلك ومعدلات النمو تتهاوي, وأرقام البطالة والتضخم تتعالي, فكيف يمكن الحديث عن إيجاد المزيد من فرص العمل لاستيعاب البطالة أو من الإنتاج لمواجهة اختناقات العرض والسوق السوداء, أو اجتياز فجوة العدالة الاجتماعية والاقتصادية؟! سؤال لابد أن نطرحه علي أنفسنا, ومن باب أولي من جانب السادة أعضاء المجالس التشريعية فلن يستقيم الحديث عن الاقتصاد الجزئي بقطاعاته المختلفة, وقضاياه المتشابكة, إذا لم يكن هناك استقرار ونمو في الاقتصاد الكلي. وبينما نتحدث عن قرض صندوق النقد الدولي, والخوف من المشروطية, فسقط من اعتبارنا أن هذه التخفيضات المتتالية في الجدارة الائتمانية للحكومة المصرية, تعني ارتفاع تكلفة الاقتراض من الخارج! ومن هذا المنطلق, وبالنظر إلي انخفاض نسبة الفائدة علي هذا القرض الذي يقدر ب3.2 مليار دولار ستكون مصر في وضع أفضل من زاويتين: (1) الاقتراض بأعباء مالية أقل من الاقتراض من أسواق المال العالمية. (2) شهادة ثقة ودعم من جانب صندوق النقد الدولي تؤدي إلي تحفيز الآخرين, وعدم ترددهم في الاقتراض أو جدولة الديون المصرية. النبأ الثاني يتعلق بإسرائيل, والإشارة إليه تهدف إلي ضرورة أن نعبر حاجز الرؤية الضيقة للأوضاع الاقتصادية الجزئية إلي الرحاب الأوسع, ممثلا في أداء الاقتصاد الكلي أين نحن؟ وأين الآخرون؟! كيف نعوض إهدار الثروات عبر ثلاثة عقود لمصلحة فئة محددة؟ وكيف نعوض حالة التشرذم التي يعيشها اقتصادنا منذ يناير 2011 مقارنة بالآخرين. التحدي الإسرائيلي في الأبعاد الاقتصادية, يتيح لها عوامل القوة والاستمرار في الممارسات السياسية والعسكرية. فطبقا للمشاورات السنوية التي يجريها صندوق النقد الدولي للدول الأعضاء, وبما يتيح لإسرائيل الفرصة للاقتراض من هذه المؤسسة الدولية, أشار التقرير الصادر أخيرا إلي ارتفاع معدل النمو الاقتصادي خلال عامي 2010 و2011 بنسبة5%, وذلك نتيجة الأداء القوي لقطاع الصادرات, وكذلك الاستهلاك المحلي, بالإضافة إلي ارتفاع الاستثمار, وقد دعم هذا الأداء بانضمام إسرائيل إلي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام. 2010 ومع تسليم تقرير صندوق النقد الدولي بالعديد من المؤشرات السلبية في مجال ارتفاع الدين العام الإسرائيلي, فقد أشار إلي أهمية إنشاء لجنة الاستقرار المالي لتقوم بالتنسيق وصناعة السياسة المالية والائتمانية بما يؤدي إلي تشخيص الداء, وتخطي المعوقات. وقد أبرز التقرير نقطة مهمة جديرة بالاهتمام, ألا وهي أن إشراك العمالة الفلسطينية وانخراطهم في الاقتصاد الإسرائيلي سيدفع بالناتج الإسرائيلي إلي القفز ب15% علي مستواه, والإيرادات المالية سترتفع بمقدار5% مقارنة بإجمالي الناتج المحلي, حيث يشكل الفلسطينيون في الأرض المحتلة عام 1948 وما بعدها 25% من عدد السكان, وينتظر أن يصلوا إلي نصف سكان إسرائيل في غضون ثلاثين عاما. فماذا لو اندرج هذا القطاع الهائل من النشاط غير الرسمي في آلة الإنتاج للاقتصاد المصري؟ وماذا لو أن الذين يعملون في جهات محددة باشروا أعمالهم لفترة انتقالية حتي تتحقق مطالبهم؟ ويكفي أن نشير إلي أن إسرائيل, بالإضافة إلي عضويتها في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية, تحظي بميزة نسبية تتمثل في إصدار سندات حكومية للاقتراض, في ظل ضمانات أمريكية إذا اقتضت الضرورة!! هذا ما يدور حولنا, والذي يجب أن يأخذه السادة المتحدثون والمطالبون في اعتبارهم, فلن يتحمل دافع ضرائب في دولة ما عبء مساعدتنا إذا كانت أنفسنا قد هانت علينا. ثالثا: النبأ الثالث زف إلينا انعقاد اجتماعات لجنة التعريفة الموحدة للاتحاد الجمركي العربي منذ أيام في مقر الجامعة العربية, وتعد تلك المرحلة الخطوة الثانية بعد منطقة التجارة الحرة, تمهيدا لإقامة السوق العربية المشتركة!!! أي بشري هذه.. التي باعدت بين تحركات الخمسينيات من القرن الماضي (العشرين), وجعلت المأمول قد يتحقق إذاتحقق في الخمسينيات من القرن الحادي والعشرين!!! يتهافت العرب علي التعاون والتنسيق مع الاتحاد الأوروبي, الذي بدأت فكرته مع السوق العربية المشتركة في منتصف القرن الماضي, بينما نحن محلك سر إن لم نكن نتراجع إلي الوراء. لقد أثبتت الدرسات أن السبب الأساسي في الصحوة واليقظة الاقتصادية الآسيوية, التي شملت ماليزيا, وسنغافورة, وفي مقدمتها الصين, تليها الهند, قد استندت بالدرجة الأولي علي التكامل الإقليمي, وتجزئة مراحل إنتاج السلعة الواحدة بين مجموعة من الدول حتي تصل في صورتها النهائية للمستهلك الأساسي, بل إن البعض منها, مثل الصين, اختصر هذه المراحل ليحتفظ لنفسه بمكان رئيسي في صادرات التكنولوجيا, فماذا عنا؟! أين الحديث عن تطوير صادراتنا المصرية وتصعيد كفاءاتنا التكنولوجية علي الصعيد الإقليمي والإفريقي والآسيوي؟! الحديث عن حل المشكلات الجزئية المصرية, ابتداء من الرغيف إلي أنبوبة البوتاجاز, لن يحل بالانكفاء علي الداخل, لكن بالنظرة الشاملة لأداء الاقتصاد الكلي, والوعي بالمتغيرات حولنا, فإذا قدرنا نفسنا حق قدرها, وترجمنا الأغاني إلي عمل فسنكون نحن مصر الشامخة. المزيد من مقالات نزيرة الأفندي