ما أن سمعت السيدة الأفغانية رحيمة جامي بقرب إبرام الجانبين الأمريكي وحركة طالبان اتفاقية سلام، سرعان ما، وبحركة لا إرادية، نظرت لقدميها وانحنت لتربت عليهما بلطف! .. وقد يبدو رد فعلها غريبا ولكنه يطوي خلفه قصة لم تمح من ذاكرتها رغم مرور عدة سنوات عليها.. فالسيدة جامي، والتي أصبحت عضوة في البرلمان الأفغاني، كانت تعمل ناظرة بإحدي المدارس إلي أن أُجبرت علي ترك وظيفتها في عام 1996 عندما استولي متمردو طالبان علي السلطة ثم أجبروها علي التزام منزلها وعدم مغادرته إلا وهي مرتدى البرقع، وفي حالة عدم الالتزام سيحدث ما لا يحمد عقباه. وبالفعل التزمت جامي ولكن في أحد الأيام الحارة ذهبت للسوق، وكانت قدماها ظاهرتين من البرقع، وإذا بها تجد عددا من الرجال يقتربون منها ويضربونها علي قدمها بالسوط حتي أصبحت بالكاد تستطيع الوقوف. وإن كان ما حدث مع جامي قاسيا فهناك أشياء أكثر قسوة حدثت للأفغانيات علي أيدي «لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التابعة لحركة طالبان، التي حاولت منذ استيلائها علي السلطة بشكل ممنهج حرمان النساء من جميع حقوقهن في التعليم والعمل والحرية بل حرمتهن من الحياة، وقد حاولن استعادة الكثير من حقوقهن خلال الأعوام الماضية في ظل وجود القوات الأمريكية، لذا فحينما علمن أنه من بين بنود السلام مشاركة طالبان في السلطة شعرن بالخوف من أن يسلبهن ذلك السلام حقوقهن مجددا. ومع استمرار محادثات السلام، التي تسير بخطي قوية وبصورة إيجابية، والتي في حال نجاحها ستنهي 17 عامًا من الصراع والدمار بأفغانستان بدأت مع الغزو الأمريكي للبلاد في عام 2001، انتشرت موجة من الحماس والأمل في قلوب العديد من الأفغان من جميع الأطراف انتظارا للتخلص من 4 عقود من الحرب المستمرة، لكن في الوقت نفسه يعد الموقف بالنسبة للنساء مختلفا حيث تختلط آمالهم بالخوف من أن يكون القادم أسوأ إذ ما تركت الساحة لطالبان، والتي ستعود للحياة السياسية من جديد، بعد سنواتٍ من الغياب عن المشهد السياسي. لذا فقد بدأت شعلة القلق تشتعل في قلوبهن مع بداية المحادثات التي تمت بين طالبان والحكومة، خاصة وأنه لم يشارك بها أي عنصر نسائي. وفي تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، عن رد فعل عدد من الأفغانيات علي محادثات السلام، قالت روبينا هامارد، رئيسة القسم القانوني لشبكة النساء الأفغانيات (وهي منظمة من المنظمات النسائية البارزة): «نحن لا نريد سلاما من شأنه أن يجعل وضع المرأة أسوأ يسلبها حقوقها مجددا». فمما لا شك فيه أن المرأة الأفغانية هي الأحوج للحد من سفك الدماء، فقد تجرعن من الأحزان كؤوسا علي مدي العقود الماضية، فلم تهدر فقط جميع حقوقهن بل كثيرات منهن فقدن أزواجهن وأبناءهن وأشقاءهن، لذا فالفرحة بقرب انتهاء أوجاعهن تأتي مصحوبة بكثير من الخوف من أن يتعرضن للتهميش في عملية السلام، التي تصب في مصلحة طالبان لذا تطالبن المفاوضين بألا ينسوهن، وأن يجعلن منهن قضية مهمة علي طاولة المفاوضات، وأن أي سلام يمنح طالبان حصة من السلطة سيكون بمثابة فرصة لعناصر طالبان لإكمال أحلامهم غير المكتملة وسيكونون أكثر قسوة من الماضي. أما شوكريا بايكان، عضوة في البرلمان الأفغاني، فتشير إلي أنه منذ وصول طالبان لسدة الحكم أجبروا النساء علي البقاء داخل أقفاص من القماش تحت ما يسمي ب «البرقع»، فقد كانت السيدة بايكان أستاذة جامعية قبل أن تجبر علي ترك منصبها، كما أُغلقت مدرسة ابنتها، مثلما حدث مع جميع مدارس البنات. ولكن بايكان وغيرها لم يستسلمن للجهل والتطرف، وقررن فتح مدارس سرية في منازلهن، وتظاهرن بأن الهدف منها تعليم الفتيات القرآن والخياطة، وهي الأشياء الوحيدة المسموح بتدريسها للبنات. وتعليقا لبايكان علي عملية السلام تقول: «لقد تم تهميشنا في عملية السلام، سئمنا جميعا من القتال الذي فتك بالبلاد علي مدي 40 عاما.. ولكن لا ينبغي ألا يكون السلام علي حساب فقدان حقوقنا وحرياتنا كنساء». وتري سايرا شريف، وهي شاعرة وسياسية أفغانية، أن الجهود السابقة في المحادثات بين الحكومة وطالبان استبعدت النساء وقالت «الحكومة الأفغانية أكدت مرات عديدة أن حقوق المرأة لن تتأثر سلبًا بعد اتفاق السلام مع طالبان، لكن النساء لم يشاركن في المحادثات السابقة مع طالبان، ونحن بحاجة إلي مكان في المستقبل، لقد قطعنا شوطا طويلا وتحملنا كثيرا من الصعاب للحصول علي الحقوق التي لدينا الآن، ونحن غير مستعدات لفقدان أي منها». ويتفق جميع المشاركين في مفاوضات السلام علي أن الحرب لايمكن أن تنتهي إلا باتفاق تقاسم السلطة مما يعني ذلك مشاركة عناصر طالبان في الوزارات أو المؤسسات الحكومية في جميع أنحاء البلاد. ويعرب رايان كروكر، السفير الأمريكي السابق في أفغانستان، والذي كان دبلوماسياً رئيسياً في كابول في عام 2002 وساعد في تأسيس أول حكومة بعد طالبان، عن خشيته من أن يكون لانسحاب القوات الأمريكية عواقب وخيمة علي النساء بعودة طالبان لممارستها القمعية مجددا بسلب الكثير من حقوقهن التي حاولن الحصول عليها خلال السنوات الماضية، حيث يقول: «أكثر ما يؤرقني حقاً هو ماذا سيكون مصير النساء والفتيات الأفغانيات؟.. فكراهية النساء الحادة في أفغانستان تذهب إلي ما هو أبعد من طالبان، فالإنسحاب الكامل للقوات الأمريكية سيمكنهم من فعل ما يحلو لهم». وتشير الوقائع إلي عدد من الجرائم البشعة التي ارتكبت في حق الأفغانيات اثناء سيطرة طالبان علي البلاد. من اشهرها واقعة تعود لعام 1999 ، حيث أعدمت أم لسبعة أبناء لقيامها بقتل زوجها الذي كان يسيء معاملتها وقد سجنت المرأة لثلاث سنوات وعذبت علي نحو شديد قبل تنفيذ الحكم، ورفضت الدفع ببراءتها فيما يعتقد أنها محاولة منها لنفي التهمة عن ابنتها (ذكرت تقارير أنها الفاعلة). وفي إحدي الغارات، اكتشفت قوات تابعة لطالبان امرأة تقوم بإدارة مدرسة لتعليم الفتيات في شقتها، فتم ضرب الأطفال والقاء المرأة عبر أدراج السلم لتكسر ساقها ثم تم سجنها. وحتي بعد سقوط الحركة في السنوات الأخيرة تذكر التقارير أن الحركة عادت لتطبيق قوانينها علي المناطق التي تسيطر عليها في أفغانستان من بينها اجراء محاكمات للأفراد في محاكم تابعة لها، من بينها قطع أذني وأنف امرأة أفغانية شابة تبلغ من العمر 18 عاما بتهمة الهروب من منزل زوجها بجانب ما حدث سابقا مع الفتاة الشابة، فرخندة، في عام 2015، التي قام أحد رجال الدين بنشر شائعة أنها حرقت مصحف فأحاطت بها مجموعة من الرجال وانهالوا عليها ضربا وسحلا حتي لفظت أنفاسها الأخيرة بينما كان رجال الشرطة يقفون مكتوفي الأيدي دون القيام بأدني محاولة لإنقاذها، وغيرها من النماذج النسائية كانت نهايتهن بشعة، والأدهي أن الملاجئ التي شيدت لحماية النساء من الأزواج المسيئين وعائلاتهن تتعرض لضغوط متزايدة وانتقادات حادة من الحكومة والمجتمع، وكأن واقعهن البائس أصبح فرضا عليهن والاعتراض عليه ومحاولة تغييره جرم لا يغتفر. فمن تحاول النجاح يعترضها كثير من المعوقات والمحاولات لإيقافها، ومنهن سيدة الأعمال «ليلي حيدري» الناشطة الحقوقية التي تناهض عودة طالبان، حيث تنتمي لعائلة محافظة دينيا قاموا بتزويجها وهي في ال 12 من عمرها لرجل يكبرها بعقدين ثم ذهبا لإيران كلاجئين وأنجبا 3 اطفال وبعدما تذوقت كثيرا من العذاب معه قررت الانفصال عنه، ولكنه اصر علي بقاء الأبناء معه لتعود وحدها لأفغانستان لتجد شقيقها يسكن الشارع بعدما أصبح مدمنا، ولكن حيدري لم تستسلم بل قررت الدفاع عن نساء بلادها حيث قامت بافتتاح مطعم وخصصت أرباحه لصالح مركز إعادة التأهيل الخاص بمدمني المخدرات، ولكن لم يكن الأمر يسير بل إن الشرطة اعتادت مداهمة مطعمها مرارا وتكرارا حيث تقول إنها تتعرض للمضايقات بشكل متعمد لأنها تسمح للرجال والنساء بتناول الطعام معا، ولأنها لا ترتدي الحجاب بالشكل الذي يروق لهم، بل والأدهي أنه تم إغلاق مركز التأهيل أخيرا وسط اتهامات - لا أساس لها من الصحة - بأن المركز واجهة للبغاء.. ولكن رغم كل ذلك لاتزال حيدري ترفع شعار «لا للسلام» الذي سيزيد من سطوة طالبان.