الانتماء هو روح الأوطان، وهو القوة الدافعة للتطور والترقى. أخطر ما يمكن أن تتعرض له المجتمعات، تراجع أو وهن «الإحساس بالانتماء». من المحال أن يزول الانتماء للأوطان، ولكن الإحساس به وحضوره فى الوجدان، هو الذى يمكن أن يتعرض للوهن أو الخفوت. وهن الإحساس بالانتماء، آفةٌ خطيرة، تندح أصداؤها فى قنوات عدة، وإليها يرجع انكفاء الفرد على ذاته، وقلة جدّه واجتهاده، وتواضع عنايته بالمجموع وبالعطاء العام. وغالبًا ما يصاحب الانكفاء على الذات، شيوع المظهرية والاستعراض الخاوى من المضمون، وتسابق الصالح والطالح على اقتناص الفرص ومواقع الزهو والوجاهة والأهمية، دون أن يقترن ذلك بمردود ذى قيمة للوطن. نهضة الأمم والدول، ترتبط ارتباط لزوم بقوة الإحساس بالانتماء للوطن والعطاء له، فالانتماء عطاء متجرد لا ينتظر مكافأة ولا ثمنًا ولا جزاءً. وضمور الإحساس بالانتماء، هو السبب الجذرى فى كثير مما تعانيه الأوطان، وهو السبب فى خفوت وانطفاء الخامة البشرية، وما قد يعتريها أحيانًا من اللامسئولية أو اللاعناية أو التواكل والاستهتار والتكاسل والاعتماد على لطف المقادير. الشعور بالانتماء هو المحرك والقوة الدافقة للولاء للوطن وشعبه، وللإحساس بهمومه وبقضاياه، والالتحام مع آماله بحيث تغدو آمال الوطن وطموحاته، هى هى آمال الفرد وطموحاته. المنتمى يَقَرُّ فى وجدانه حين يتقلد وظيفة أو منصبًا، أنه فى خدمة الناس لا فوقهم! وأنه من الحماقة أن يفهم الخدمة على أنها محض سلطة تتبلور عنده إلى «شوكة»، أو أنه لا قيمة له ولا وزن ما لم يطأ المواطنين بشوكة هذه السلطة .المنتمى يستقر فى علمه وثقافته وخلقه، الفهم الصحيح لرسالته وواجباتها، وإدراك أن انتماءه العميق الواعى لوطنه هو بوصلته البصيرة التى تضمن له صفاء رؤيته وسداد توجهاته، وثراء وإيجابية عطائه. كنا نعزو إلى الاحتلال الإنجليزى، ومن قبله الاحتلال الفرنسى، الموقف النفسى المعادى للسلطة الذى قد يفرز فى اللا وعى خفوت الإحساس بالانتماء، ويخلط لدى العامة الملكية الوطنية العامة بأداة الحكم والاحتلال الأجنبى . قد يكون للبسطاء والعامة العذر فى هذا الخلط «اللاواعى»، حدث ذلك حين قادت هذه المشاعر المختلطة إلى نسف وتدمير الممتلكات المصرية من محطات ومرافق وسكك حديدية وغيرها فى ثورة 1919.. اعتقادًا بأن التدمير إعاقة للمستعمر المحتل، تُطلب لذاتها حتى وإن دفعت الثمن من أموالنا وممتلكاتنا العامة التى ندمرها أو نتلفها، ولكن ما بالنا وقد تزامن رحيل المستعمر الأجنبى مع تمصير الاقتصاد الوطنى منذ منتصف القرن الماضى، لا نزال نقع فى هذا الخلط، ونبقى فى وهدة هذا الإحساس الضامر الضرير! قد يفلسف اللا وعى، ضمور أو خفوت الإحساس بالانتماء بمبررات وتعلات، بيد أن هذه التعلات أيا كان مقدار نصيبها من الصحة لا تجيز أن ينحل الضيق بها إلى تفكك وخفوت شعلة الانتماء والعطاء للوطنة بل لعل الأقرب إلى تداعيات النفس، أن يكون ذلك شاحذًا لتعميق الانتماء لتجاوز السلبيات والإقبال على العطاء فى تجرد وجدية وحماس. ليس هذا حديثًا فى السياسة، وإنما هو انشغال بالوطن وبمصر التى فى خاطرى وفى خاطرك، وغوصٌ إلى الأعماق فى التعرف على همومها ومتاعبها.. أيامنا كنا ندْرس التربية الوطنية لا الحزبية ولا السياسية ولا الطائفية ولا الفئوية.. التربية المعنية بالوطن وحب الوطن وقضايا الوطن لا سواه .. لم نكن ندخل إلى الفصول الدراسية إلاّ بعد أن نصطف فى طابور الصباح ونحيى العلم فى جلال واحترام ونهتف من القلب «تحيا مصر» .. لقد دهمتنا أشياء وملمات واختناقات كثيرة لفتتنا عن هذا الجانب «المعنوى» الضرورى المهم فى تربية وبناء الشخصية.. عن تعميق حب الوطن وصدق وفاعلية الانتماء والعطاء له فى صفحة وعينا!. الأوطان ليست فقط محيطًا جغرافيًا، وإنما هى أيضًا محيط بشرى.. الانسان هو عدتها، وهو القوة التى تعطى للجغرافيا قدرةً فاعلة معطاءة ومؤثرة. الانسان هو الذى يفرز ويشكل منظومة القيم والعلاقة بين الوطن والمواطن، وبين الفرد والآخر، ويعطى المعنى للتفاعل مع الوطن، وتسخير نفسه وإمكاناته للعطاء له والمحافظة عليه . هذا الجانب الروحى والمعنوى هو قاعدة الأساس فى الانتماء الوطنى، ومن ثم الامتزاج به وتكريس العطاء له ولكن هذا الأثر يصيبه النحر إنْ لم يتلاق مع المقومات الإنسانية والمادية التى يثبت بها ويرسخ، ويشتد عوده. ضمور الكينونة، والتراجع عن المشاركة والإسهام، يؤدى حتمًا إلى الانعزال الداخلى، وإلى ضمور الإحساس بالانتماء بأمراضه وعوارضه . أصعب ما يواجه المجتمعات بناء قاعدة الانتماء وحمايتها من مخاطر التآكلات . فى هذا الانتماء نجاح التعليم والصحة والثقافة، والزراعة والصناعة، وترسيخ الأمن والأمان، وتجميل حياة الوطن والمواطنين. لقوة الانتماء مصبات عديدة مجتمعية واقتصادية وثقافية ومعرفية وإنتاجية وسياسية وأمنية. انسلات المصرى وتمحوره وانكفاؤه على ذاته، وتنامى ظاهرة الأغلبية الصامتة، مرض حقيقى يحتاج إلى تشخيص جاد وإلى دواء أكثر جدية وصدقًا والتزامًا.. لا عذر لنا فى ضمور انتمائنا، ولا عذر لنا فى القعود أو التكاسل أو الالتفات عن استقصاء أسبابه، ولا فى القعود أو التكاسل عن تجميل حياتنا .. هذا لا يحتاج إلى إنفاق ولا أموال ولا ميزانيات، وإنما يحتاج إلى الجد الذى كان، ويحتاج إلى عزم ونظام، وإلى انتماء عميق يشعر به المصرى.. كل مصرى، أنه بضعة من مصر، همه أن يذوب ولاءً لها.. أن يكون الواحد للكل.. وأن يتحول إلى قوة فاعلة معطاءة لصناعة العمار والحياة والجمال فى ربوعها. لمزيد من مقالات رجائى عطية