صحيح أن الأمركة محض هيمنة، ترفض المنافسة، فلا مرجعية لها إلا ذاتها، وأمست بذلك حسمًا غير قابل للنقاش، تفرض وجودها قسرًا علي كل آخر، استتباعًا لهيمنتها، لكن الصحيح كذلك أنها أيضًا تتعاوم في مياه الخداع مع الآخر المختلف، فتوقعه في فخها بخلق الأوهام الموحية بمصالح ذلك الآخر، في حين أنها تستهدف مصالحها بامتداد هيمنتها، دون أن تسمح للآخر بأن ينال شيئًا يحقق فرادته، أو يبارح استتباعه لها، لتحقق الامتداد الجغرافي لوجودها بقولبة الآخر خضوعًا لهيمنتها. وقد شكلت هذه القولبة تحديًا أمام العرب المهمومين بقضايا أوطانهم، فرفضوا هيمنة الأمركة، وكان يقينهم أن الانخراط انفتاحًا علي البنية المعرفية، هو المحرك الحقيقي للازدهار؛ وليس الخضوع للأمركة، التي تغلق أفق المستقبل وتحولاته؛ لذا انفتحوا علي الاتحاد السوفيتي لمساندتهم في مشروعات التنمية، عندئذ تجلت سطوة ما تتسم به الأمركة من خصوصية في تصيد الفائدة، التي تعود عليها من هذا المتغير، صحيح أن هذا المتغير يشكل تهديدًا لهيمنتها علي الشرق الأوسط، لكن الصحيح كذلك أنها امتطت صهوة هذا المتغير، مستهدفة الاستثمار المضاد له؛ إذ راحت تورط المسلمين بأفغانستان في الحرب بالوكالة ضد الاتحاد السوفيتي، لكن تحت شعار القضاء علي الملاحدة. وفي دراسته التي بعنوان ( لماذا تفقد الولاياتالمتحدة العلاقة مع التيار الإسلامي؟)، يطرح ريموند ويليام بيكر، رئيس برنامج دراسات الشرق الأوسط، (أن الولاياتالمتحدة لجأت إلي الإسلام السياسي للتعجيل بهزيمة الاتحاد السوفيتي. ودبرت المخابرات الأمريكية مع نظرائها في المنطقة بكفاءة استقدام المسلحين الإسلاميين، من كل أرجاء العالم الإسلامي، بمن فيهم أسامة بن لادن للاستفادة من ضعف وضع الاتحاد السوفيتي في أفغانستانالمحتلة. ولم تكن تلك المرة الأخيرة ولا الأهم التي تدعم فيها شبكات العنف الإسلامية الهيمنة الأمريكية المطلقة التي مولتها ودربتها علي العمل في أفغانستان. ونتيجة للانتصار في حرب العصابات المدعومة من أمريكا ضد الاتحاد السوفيتي تضاعفت أعداد المجموعات الجهادية في العالم كله ناشرة الخراب في كل مكان). ولأن يقين الأمركة أن هيمنتها شرط وجودها؛ لذا يسكنها جموحها المطلق بالتوقيف عن المضي، لأي محاولة تهدد هيمنتها. تري هل تعاود الأمركة استدعاء تجربتها تلك لتكرارها؟ ( لغز داعش) عنوان المقال الذي نشرته المجلة الرصينة ( نيويورك ريفيو أوف بوكس)، التي لم تذكر اسم الكاتب، واكتفت بتعريفه بأنه صاحب خبرة واسعة بأمور الشرق الأوسط، ومسئول سابق في إحدى دول حلف الناتو. تبدت حيرة الكاتب في مقاله من ( أن شيئًا لم يبد مفاجئًا، وغير مفهوم، ويصعب تفسيره مثل صعود داعش، وحتى الآن لم ينتج أي من المحللين والعسكريين والدبلوماسيين وضباط المخابرات، والسياسيين والصحفيين تفسيرًا ثريًا بدرجة كافية- حتى في إدراكه المتأخر- بتوقع صعود هذا التنظيم)، ولأن العالم جدير بالفهم، وأيضًا لا يجب أن تتورط المعرفة في التواطؤ الرائج بتصنيع الاعتقادات وتسويقها؛ لذا يعترف الكاتب في مقاله، ( كثيرًا ما أميل إلي القول بأننا ببساطة بحاجة ماسة إلي معلومات أكثر وأفضل، ليس من الواضح ما إذا كانت ثقافتنا يمكن أن تطور المعرفة الكافية والدقة والخيال، والتواضع لفهم ظاهرة داعش). المقال يعكس موقفًا نقديًا تجاه لغز داعش، اعتمادًا علي أن كل نتيجة تستند إلي ما أعد لها من مقدمات، كما يتبدى المقال شهادة تلوح باللايقين في حقيقة كل ما يطرح، وترفض الأوهام المصنوعة التي تسوق، بوصفها عوائق تقوم بين العقل والواقع، إخفاءً وتغييبًا للمعلومات، وتبديدًا للمعرفة، واستحضارًا لكل أساليب المواربة، وأشكال التسميم الإعلامي الموجه؛ لذا يطالب المقال بحق الفهم. صحيح أنه قد صدرت كتب عديدة، استعرضت نشأة تنظيم داعش بالعراق وسوريا، ورصدت جرائمه الوحشية، التي تتسم بالعنف الجماعي ذبحًا، وتعذيبًا، واغتصابًا، وعصفًا مطلقًا متخطيًا للحدود كافة، وأيضًا تتبعت امتداداته في بعض مناطق البلاد العربية، وصحيح أيضًا أن معظم هذه الكتب قد أبدي كتابها دهشتهم بإنجازات التنظيم التقنية، ففي كتاب( داعش: داخل جيش الإرهاب)، للباحث الأمريكي مايكل ويس، والباحث السوري حسن حسن، والصادر 2015، يشير الكتاب إلي اكتمال القدرات والإمكانيات المالية والإعلامية الضخمة لدي التنظيم، خاصة في التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلي امتلاك التنظيم القدرة علي محاكاة الطريقة التي يعمل بها الإعلام الغربي، وأسلوبه في تغطية الأحداث، وأيضًا في كتاب ( داعش: دولة الإرهاب) للباحثين الأمريكيين: جيسكا ستيرن، وبيرجير، الصادر 2015، تناول الباحثان في تحليليهما رصيد التنظيم علي أشمل وسائل الاتصال الاجتماعي وأسرعها، وكذلك التعقب لحساباته علي تويتر، التي استثمرها التنظيم لاستجلاب المؤيدين، ويشير الكتاب إلي محاولات التنظيم الالتفاف علي إدارة شبكة تويتر، وذلك بتغيير صورة الملف الشخصي الخاص به إلي صورة قطط. وفي غياب إجابات أسئلة الحقيقة: تري كيف تأتي للتنظيم ذلك الاقتدار التقني؟ ومن أين له تلك الأموال المتدفقة؟ يتبدى لغز داعش محيرًا. لكن الصحيح أن إجابة أسئلة الحقيقة، اضطلع بها كتاب ( عودة الجهاديين: داعش والانتفاضة السنية الجديدة)، لمؤلفه الأيرلندي باتريك كوكبيرن، حيث يعد من الكتاب المتفردين كفاءة، وشجاعة، وشغفًا بالحقيقة، والذي يؤكد أن الولاياتالمتحدة قد فشلت في قيادتها الحرب علي الإرهاب، ويوعز ذلك إلي عدم استهدافها الحركة الجهادية ككل، ويري أن الإرهاب أصبح أكثر قوة بالمنطقة والعالم، نتيجة الفشل الأمريكي، ويشير إلي أن نجاح داعش في السيطرة علي الموصل كان مفاجأة، ويضيف أن تركيا ساعدت داعش والجماعات الجهادية، بأن أعطت داعش، وجبهة النصرة، قاعدة خلفية آمنة لجلب الرجال والأسلحة بعبورهم تركيا إلي سوريا والعراق. يكشف الكاتب عن الوضع المستحيل، عندما يشكك في جدية التحالفات الغربية مع بعض دول المنطقة، بوصفها الممول الأساسي للشراسة وسفك الدماء؛ بل يؤكد أن وكالات الاستخبارات الغربية متورطة تورطًا كبيرًا وعلي المستويات كافة. ثم أورد الكاتب ملاحظة مهمة سجلتها مقاطع ضخمة لفيديوهات من جبهات القتال، إذ يظهر لواء اليرموك وهو يقاتل بالتعاون مع جبهة النصرة، إحدى أذرع تنظيم القاعدة، ويعلق الكاتب بأن ذلك يعني أن واشنطن كانت تقوم بكفاءة بتوريد أسلحة متقدمة لأعتي أعدائها. ولأن الشفافية معرضة للتظليل، فقد اقتحم الكاتب كثف الظلال معلنًا: أنها صناعة الأسلحة، وإيجاد سوق لترويجها، وربما كان الفشل في القضاء علي الإرهاب مقصودًا، أو مخططًا له من قبل الدول الغربية. ثم توالي إعلان الحقائق التي تؤيد كوكبيرن، وهي وثائق سرية تخص وزارتي الخارجية والدفاع رفع عنها الحظر بموجب دعوى قضائية، فباحت بالتفاصيل كافة، وقد صرح مايكل فلين، مدير المخابرات الدفاعية السابق، عن الدور الخفي للرئيس أوباما في تأسيس داعش وتصاعد نفوذه، واتخاذ الإدارة الأمريكية قرارًا بدعم متطرفي جبهة النصرة وداعش. لقد انكشف اللغز؛ لكن تري هل اتخذت الأمركة من الحرب علي الإرهاب فخًا يبتلع الأبطال الحقيقيين الذين يتصدون له؟ تراها ستسارع إلي طرد الحقيقة بغسل يدها؟ لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى