من آنٍ لآخر تظهر بعض المصطلحات والمفردات المستحدثة التي تفرضها النظريات والأحداث التي تتواتر خطواتها باطراد مذهل في تسارعه، ومن بين هذه المصطلحات مصطلح الفوضى الخلاقة، الذي لاقى رواجاً هائلاً في الواقع الدولي المعاصر على إثر ظهور المشروع الشيطاني الذي صاغه أحد أساطين الفكر اليهودي برنارد لويس عام 1980م وأطلق عليه مشروع (حدود الدم) لتقسيم وتفتيت الدول العربية والإسلامية إلى دويلات صغيرة متصارعة ومتطاحنة على أساس ديني ومذهبي وطائفي ليسهل السيطرة عليها وإخضاعها للتبعية الأمريكية والصهيونية. وقد وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على مشروع برنارد لويس في عام 1983م وبدأ العمل على تنفيذه على مراحل متعددة، ويجمع هذا المصطلح بين متناقضين، فوضى وخلاقة، ولهذا فهو يتسم بقدر كبير من الالتباس والتأويل، ويهدف من منظور صهيوأمريكي إلى تنشيط قاعدتي التفكيك والتركيب، تفكيك الدول العربية والإسلامية وتجزئتها بأساليب وخطط ممنهجة تخدم المصالح الأمريكية، وتحافظ على بقاء وأمن وقوة الكيان الصهيوني في تلك المنطقة، ثم إعادة تركيبها من جديد وفقاً لما يتماشى مع تعزيز وتدعيم الهيمنة الأمريكية على العالم لحقب زمنية طوال. ونتيجة لذلك تقوم نظرية الفوضى الخلاقة على عدة دعائم منها على سبيل المثال لا الحصر، إطلاق الصراع العرقي بين جميع أطياف الشعب في الدول التي تتمتع بقدر كبير من التوازن والاستقرار القائم على التركيب العرقي، وإطلاق صراع العصبيات لضرب وتدمير جميع مؤسسات الدولة وتجزئتها، والقضاء على الاستقرار الأمني، وخلخلة الوضع الاقتصادي، إلى جانب شن حرب إعلامية شعواء على المدى الطويل لتحقيق مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار. وعطفاً على ما سبق يمكن القول إن إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط في ظل الهيمنة الأمريكية لم يعد يتم باستخدام الطائرات والمدافع والدبابات، بل أصبح يتم الآن بنشر الفوضى وعدم الاستقرار، وما دام أن الشغف الأمريكي المتواصل بالهيمنة المطلقة على العالم قائم، فإن نشر الفوضى الخلاقة سيظل هو المحرك للميتافيزيقيا للسياسة الأمريكية، إذ أن إثارة ما لا حصر له من الأزمات الطائفية والعنصرية والعرقية والمذهبية هو السبيل الأمثل والبيئة الخصبة لخلق حالة من الفوضى واللا استقرار من دون الالتفات للنتائج والانعكاسات السلبية التي يمكن أن تتولد من رحم تلك الأزمات، لأن من يمارس الهيمنة ويحاول الانفراد بها لن يكون معنياً بالإجابة عن الأسئلة التي تتعلق بالأخلاق والشرعية والعدالة والإنصاف، لأنه إن انشغل بالإجابات فاتته فرصة التسيد وقد يكون تابعاً وليس متبوعاً، وهذا ما يدركه كل طغاة وجبابرة البشرية. تم التصريح علانية بحمل الولاياتالمتحدةالأمريكية للواء الدعوة إلى الفوضى الخلاقة على لسان العجوز الشمطاء الكارهة للإسلام وللمسلمين كوندليزا رايس في حديثها الصحفي مع جريدة الواشنطن بوست في عام 2005م. كما أكد على هذا التوجه الأمريكي رئيس وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) السابق "جيمس وولسي" عندما صرح في عام 2006م قائلاً: "سنصنع لهم إسلاماً يناسبنا، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، فيتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية، ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر"، وقد تم بالفعل نشر وترويج الفوضى الخلاقة في غالبية الدول العربية والإسلامية اعتماداً على مخطط ومشروع برنارد لويس الذي أعاد صياغة ورسم المنطقة العربية وتقسيمها إلى دويلات متناهية في الصغر على النحو الآتي، تقسيم لبنان إلى ثمانية كانتونات عرقية ومذهبية ودينية متصارعة فيما بينها، وتقسيم العراق إلى ثلاثة دويلات، وتقسيم سوريا إلى أربعة دويلات، وتقسيم السودان إلى أربعة دويلات، وتقسيم إيران وباكستان وأفغانستان إلى أربعة كيانات عرقية مشتتة ومتناثرة، واقتطاع جزء من تركيا وضمه إلى الدولة الكردية في العراق المزمع إنشائها، وضم جزء كبير من الأردن إلى الدولة اليهودية لتوسيع رقعتها، وإعادة تقسيم شبه الجزيرة العربية والخليج إلى دويلات متصارعة على أساس عرقي ومذهبي بين السُنة والشيعة، وتمزيق دولة اليمن، وتقسيم مصر إلى أربعة دويلات وهم الدولة الإسلامية والدولة النصرانية والدولة النوبية ودولة سيناء وشمال الدلتا. حصد مشروع برنارد لويس العديد من النتائج الإيجابية على أرض الواقع عن طريق تطبيق نظرية الفوضى الخلاقة وغيرها من العوامل الأخرى، وما نراه الآن في العراقوسوريا وليبيا ولبنان والسودان واليمن وغيرهم من فوضى وعدم استقرار والدعوة لتقسيم لهذه الأوطان لهو خير دليل على النجاح الذي حققته نظرية الفوضى الخلاقة في خدمة مشروع برنارد لويس لتفتيت الشرق الأوسط، فلقد تحقق الكثير من الأهداف المرجوة ولا يزال هذا المشروع يمضي في طريقه بخطى واثقة لتفتيت الدول العربية وإعادة ترسيمها من جديد. ولو نظرنا لتنشيط الفوضى الخلاقة في مصر لوجدنا أن الاستراتيجية الأمريكية قد اتجهت لإثارة الفوضى وعدم الاستقرار عن طريق تبني ما لا حصر له من الأساليب والحيل الخبيثة، وكان أبرزها على الإطلاق استخدام أقباط مصر كورقة لإشعال فتيل الفتنة الطائفية، من خلال الزج بهم في صدام عنيف مع الجماعات الإسلامية وغيرهم من القوى والأحزاب السياسية، لكي يرفعوا راية الانفصال عن مصر والمطالبة بحقهم في إقامة دولتهم القبطية المستقلة، ولكن سرعان ما انكسر الموج الصهيوأمريكي المتدفق على صخرة التلاحم والتماسك وقوة الأواصر التي تسود العلاقات بين المسلمين والأقباط. لا يعني هذا أن مخطط انهيار وتفكيك مصر قد انتهى بفشل الجولة الأولى من النِزال، لأن تحقيق هذه الغاية دونها والنهاية جولات وجولات، ولكن ماذا نحن فاعلون لدرء الخطر القادم …؟ والسؤال الآخر الذي يتبادر إلى الأذهان هو، أين العرب والمسلمين وحكامهم وساستهم من تلك المؤامرة – وغيرها – التي يعلمها القاصي والداني …؟ وإلى متى الصمت والسكون ودفن الرؤوس في الرمال …؟ ومتى سنحرر أنفسنا وأوطاننا من عبودية الإله الأمريكي الذي أصبح يعبد في الأرض من دون الله …؟ أسئلة تحتاج منا أن ننقب عن أنفسنا وأن ننشد ضالتنا عسانا ندركها، وعندها قد نجد الجواب !.