حتى لا تكون العتبة الأولى فى هذا النص مراوغة.. فإننى سأصارحك أولا.. أعرف أنك فى الأغلب - كقارئ عام- لا تعرف من يكون تامر محسن.. لكننى أقول لك هنا.. إنك إذا كنت واحدا ممن يبحثون عن فن محترم.. تجذبك قصته.. وتمتعك دقته.. وقد تغيرك أفكاره.. فلا بد أن تعرف هذا الإسم جيدا. على المستوى الشخصي.. لا أعرف «صاحب الإسم».. لكن قصتى مع «الإسم» بدأت قبل عامين.. بالتحديد فى شهر رمضان عام 2015.. عندما وجدته على تتر مسلسل رائع هو «تحت السيطرة» كمخرج للعمل.. لفت نظرى وقتها أن المسلسل غاص فى تفاصيل عالم الإدمان والتعافى ليقدم ما يمكن تسميته ب «التحقيق الدرامي» عن المخدرات.. من خلال قصة جاذبة مثيرة.. غير مملة للمشاهد العادي.. لكنها فى الوقت نفسه جاءت حاملة رسالة نهائية «أرقى».. وهى أن الإدمان ليس مجرد خمر ومخدر.. بل الإدمان أن تصبح النفس أسيرة لأشياء أو رغبات أو مشاعر أو أفكار تسيطر عليها دون وعى منها.. رغم أنها فى الأصل حرة. وقتها عرفت الإسم جيدا.. تامر محسن.. ثم عرفت أن صاحبه سبق له إخراج مسلسل ناجح هو «بدون ذكر أسماء» وفيلم «قط وفار».. لكن..... بعدها.. أين ذهب؟!.. اختفى!.. بحثت عنه فى رمضان 2016 فلم أجده.. سألت فعرفت أنه يقوم بإخراج إعلانات تجارية.. من حقه كإنسان أن يبحث عن «أكل العيش». لكن.... على أى حال.. عاد الرجل فى رمضان 2017.. ويا لها من عودة!. «هذا المساء».. مسلسل رمضانى عاد به تامر محسن.. شاهدته على الإنترنت بعد انتهاء الشهر الكريم.. وسط الزحام وغابة الإعلانات تتوه الأعمال الراقية.. وهذه قضية سنعود إليها فى مقالات مقبلة.. وكما قلت فى مقالات سابقة فإننى أكتب هنا بحس مشاهد متذوق لا رؤية ناقد متخصص. المسلسل عمل فنى متكامل.. ومباراة إبداعية بين القائمين على مختلف العناصر.. سيناريو وتمثيل.. موسيقى وتصوير.. إضاءة ومونتاج.. وبالطبع إخراج.. «هذا المساء».. مسلسل غارقٌ فى التفاصيل.. غنيٌ بمراتب التلقي.. عامرٌ بالإشارات والرسائل.. حول دقائق النفس البشرية.. الصدق المجدول فى ضفائر الكذب.. والشر المغزول على أنوال الخير.. كل ذلك يجرى على أرضية قصة جاذبة مثيرة.. غير مملة للمشاهد العادي.. جاءت أيضا بمثابة «التحقيق الدرامي» حول مسألة القرصنة والتجسس على التليفونات المحمولة الحديثة.. بما يتيح للآخرين اختراق خصوصياتنا.. ثم مساومتنا.. بمجرد التقاط خيط لخطأ - ولو وحيد- نكون قد ارتكبناه.. فيكون هو نقطة ضعفنا.. عمرا بأكمله!. ربما يعيب الحلقات الأولى فقط بطء الإيقاع.. لعلها لعنة الثلاثين حلقة.. لكن التفاصيل التى يستعرضها المخرج هى فى حد ذاتها مُتعة.. لا سيما حكايات المساء وأضوائه وأغانيه.. والتنقل بين مشاهد الحياة لدى الطبقتين الغنية والفقيرة.. واستعراض نقاط التماس - والاحتكاك- بينهما.. فى تناول مختلف عن الرؤية التقليدية التى تنتصر دوما لإحدى الطبقتين وتلصق الموبقات بالأخرى.. لكن الجديد فى «هذا المساء» أنه يقدم لنا الكلَّ من حيث كونهم بشرا.. لا أخيار أنقياء من الدنس على الدوام.. ولا أشرار قابعين فى وحل الخطيئة للأبد. والحق أننا جميعا هكذا.. أنقانا مذنب.. وأَشرُّنا لا يخلو أبدا من خير.. ونحن كما تقول بعض جمل الحوار الكاشفة فى المسلسل «مفيش حد فينا ما بيغلطش.. لازم نسامح عشان نعرف نعيش مع بعض».. «ما هى الناس لازم تتعلم تسامح عشان تعرف تعيش».. وعلى كل حال «ربنا يخلى لنا الموبايلات السمارت فون أُمُّ كاميرا أمامي» كما قال أحد الأبطال باكيا وهو يشاهد فى العدسة وجهه المشوّه.. فى لحظة كشف مهمة.. فالعيب فينا نحن لا «الموبايلات»!. لم أكشف لك هنا عن شخصية البطل الباكي.. أتدرى لماذا؟!.. لأننى أدعوك الآن إلى مشاهدة المسلسل.. إكسر طوق المشاهدة الرمضانية واستمتع برؤية حرة.. إستمتع بمباراة راقية بين الفنانين وبعضهم البعض.. وبينهم وبين أدوارهم السابقة كلها.. إياد نصار وأحمد داود وأروى جودة.. و«الست الراسية» حنان مطاوع التى تبدو بأسلوبها السهل الممتنع كمن تحلّق بين ثنايا السحاب.. أما «الولد الشقي» فى التمثيل محمد فراج فهو يلعب بنا ومعنا «كل الألعاب» ولا يبقى إلا أن «يتشقلب فى الهوا» وسنصدقه أيضا وقتها!.. كما يحسب للمخرج رهانه على الوجه الجديد أسماء أبواليزيد «تُقى» بمنحها دورا رئيسيا جاء بمثابة شهادة ميلاد لها. أخيرا أقول.. نعم أدعوك إلى مشاهدة هذا العمل.. لعلك تكتشف أن السعادة قد تكون فى الطموح والسعى لكن بشرف.. فى الرضا بعد العمل.. السعادة قد تكون فى مركب صغير على النيل يحمل اسم «باريس 2»!.. وقد تكون أيضا فى مشاهدة عمل فنى راق يغذى الروح.. كما فى «هذا المساء».. لكن السعادة لا تأتى إلا بعد اكتشاف التشوهات ومواجهتها.. لذا فإننى أتساءل.. لماذا لا يوجه القائمون على صناعة الفن فى الدولة والقطاع الخاص اهتمامهم إلى مبدعين حقيقيين مثل تامر محسن وغيره؟!.. مع أن توفير الفرص لهذه المواهب قد يوجد لدينا تيارا جديدا لا يقل أهمية عن تيار الواقعية الجديدة فى السينما فى الثمانينيات؛ سينما خان والطيب وبشارة وعبدالسيد، فلماذا لا نفعل؟.. وهل سنظل نسأل؟.. وهل سنكتب بعد عامين مقالا جديدا بعنوان «البحث عن تامر محسن»؟.. هل هذا معقول؟.. هل هذا ممكن؟!. [email protected] لمزيد من مقالات محمد شعير