ما أكثر المناصب التى شغلها الدكتور مصطفى الفقى عبر العقود الأربعة أو الخمسة الماضية، كانت شخصية الدكتور مصطفى كإنسان وصديق وما ولدته لدى من محبة وتقدير من أهم ما أثرى هذه الصداقة، إلا أن مصطفى الفقى لم يكن فقط هذا الدبلوماسى البارع، ولكنه كان ومازال ذلك المفكر البديع وذلك الكاتب الذى كتب طوال العقود الماضية عن أهم القضايا التى شغلت حياتنا السياسية والفكرية بما يجعل كتاباته من أهم المواد المرجعية لمن يريد فى مستقبل الأيام أن يؤرخ لمختلف الحقب الذى تناوبت على مصر عبر النصف قرن الماضي، هو جبرتى هذه الحقبة. يأتى الدكتور مصطفى الآن ليتولى مهمته الجديدة مديرا لمكتبة الإسكندرية فينشأ بُعد جديد ليضيف إلى القواسم المشتركة التى تجمع بيننا، فلقد انشغلت بموضوع المكتبات العامة عبر الربع قرن الماضى عندما دعتنى السيدة سوزان مبارك عام 1993 لأسهم فى بناء مكتبة عامة تنشأ بالجيزة تكون نموذجا يحتذي، فكانت »مكتبة مبارك« التى استقرت فى موقع بديع على كورنيش النيل بالجيزة طبقا للمعايير الدولية الحديثة، وتم افتتاحها افتتاحا حافلا حضره الرئيس مبارك ولفيف من كبار المسئولين وحضره من الجانب الألماني، وكان إنشاء هذه المكتبة بمثابة علامة فارقة فى تاريخ المكتبات العامة فى مصر. لم أكن أدرى أن قبولى الإسهام فى هذا العمل الثقافى المهم سيتحول مع الأيام إلى ما تحول إليه اليوم واجبا وطنيا تطوعيا كلما أنجزت فيه يلح عليّ بأن أنجز المزيد خاصة مع ما أصبحت أراه من فراغ مخيف فى المكتبات العامة بمصر بما يضعها فى مكانة غير لائقة بها بين الأمم. بالتوازى مع اهتمامى بمكتبة مصر العامة (مبارك سابقا) بدأ اهتمامى بمكتبة الإسكندرية ومشروع إعادة بنائها يعيد مجدها القديم منذ أنشأها بطليموس الأول قبل بدء الألفية الأولي، والتى ظل سحرها وسحر مدينة الإسكندرية يراود مثقفى العالم، وحدث أنه بمجرد أن وصلت إلى واشنطن فى نوفمبر 1984 أن التقيت بالمؤرخ الأمريكى المعروف دانيال بورستين مدير مكتبة الكونجرس آنذاك الذى أخذ يحدثنى عن أهمية أن تتبنى مصر مشروعا لإعادة المكتبة القديمة، ولم أكن أعلم أن هذه الفكرة تراود فى هذا الوقت أحلام الدكتور مصطفى العبادى أستاذ التاريخ اليونانى الرومانى الذى رحل عن عالمنا منذ أسابيع فى صمت ودون وداع إلا من مجلة الإيكونوميست البريطانية التى أفردت له صفحة كاملة، الذى أقنع الدكتور الخضرى رئيس الجامعة بالفكرة لتكون المكتبة التى ستنشأ لجامعة الإسكندرية. انتهزت فرصة الخطاب الذى ألقاه الرئيس السيسى أمام مجلس أمناء المكتبة فى 18 أبريل عام 2015 ودعوته إلى أن يمتد دور المكتبة إلى كل ربوع مصر فى الصعيد والدلتا، فكتبت إلى د.سراج الدين واقترحت عليه أن نعمل سويا، مكتبة الإسكندرية ومكتبة مصر العامة من أجل تحقيق هذا الدور، وكان رد الدكتور سراج الدين إيجابيا واتفقنا على صيغة لبروتوكول تعاون بين المكتبتين ووقعنا البروتوكول فى 24 مارس من العام الماضي، إلا أن هذا البروتوكول للأسف لم يسفر على أرض الواقع عما كنا نأمل فى أن يحققه، فى وقت شهد تصاعدا فى الحاجة أكثر وأكثر إلى نشر المكتبات العامة وبث أنشطة مكتبة الإسكندرية فى كل ربوع مصر، وكان بروتوكول التعاون الذى وقعناه سويا يتيح لنا أن نحقق تمكين مكتبات مصر العامة فى المحافظات من متابعة ما يجرى من ندوات ومؤتمرات فى مكتبة الإسكندرية عبر الفيديو كونفراس وترتيب زيارات لأعضاء المكتبات الإقليمية وفروع مكتبة مصر العامة.. إلى غير ذلك مما اقترحناه، ولكن مكتبة الإسكندرية للأسف لم تستجب لهذه المقترحات واكتفت بأن وافتنا بهدية كريمة من إصدارتها. إذ يترك الدكتور سراج الدين منصبه اليوم كمدير لمكتبة الإسكندرية ويأتى بعده الكاتب الكبير والدبلوماسى الأثير الدكتور مصطفى الفقى الذى أزعم أن الزمن قد ادخره لهذا المنصب المهم فإننى أعتقد أنه سيبدأ مهمته من خلال الاقتناع بأن مكتبة الإسكندرية هى لمصر كما هى للعالم، وهو يأتى فى وقت مصر فى أمس الحاجة منه لدور تنويرى شامل لمكتبة الإسكندرية، كما يأتى بينما شرعنا فى مكتبة مصر العامة بالدعوة إلى مشروع الألف مكتبة الذى وجد أصداء إيجابية. أرى أننا نستطيع أن تتعاون سويا مكتبة الإسكندرية ومكتبة مصر العامة فى إنشاء عدد من المكتبات العامة التى تعيد مجد مكتبات البلدية التى ازدهرت فى النصف الأول من القرن الماضى على أن تكون البداية فى مدينة الإسكندرية نفسها التى وهبت اسمها لمكتبة الإسكندرية ووهبت مكتبة البلدية ما كان لديها من مخطوطات وبرديات وغيرها من كتب نادرة مثل كتاب وصف مصر (نسخة أصلية) إلى مكتبة الإسكندرية، وقد ظلت مكتبة البلدية بالإسكندرية موئلا للساعين إلى المعرفة من أهل الإسكندرية لسنين طويلة، ومكتبة الإسكندرية بلا شك مدينة للإسكندرية وأهلها بأن تقدم كل العون من أجل نشر مكتبات عامة بها بالمدينة العتيدة ذات الأربعة أو ربما الخمسة ملايين. أطرح لذلك على الدكتور الفقى أن نتعاون سويا ومع محافظ الإسكندرية لإقامة عدد من المكتبات العامة فى الإسكندرية تسهم فى عملية التنوير وفى منظومة التعليم بكل ربوع محافظة الإسكندرية، وتكون هذه المكتبات بمثابة فروع لمكتبة الإسكندرية، وستقوم المكتبتان بما لهما من خبرة فى تدريب مكتبات الإسكندرية العامة... لقد لاحظنا مدى التأثير الذى تحدثه المكتبات العامة التى أقمناها فى أربعة عشر محافظة فى المجتمع، لاحظنا ذلك فى الزاوية الحمراء حيث أنشأنا فرعا يمثل أكبر مكتبة عامة فى مصر، ولاحظناه فى دمنهور حيث تقف مكتبة مصر العامة هناك كمنارة مع دار أوبرا دمنهور التى جاء إحياؤها قرينا بإنشاء المكتبة العامة، كما لاحظناه فى الوادى الجديد وبورسعيد ودمياط والمنصورة والزقازيق والإسماعيلية ودمنهور وبنها والأقصر والزاوية الحمراء والزيتون فى القاهرة والمكتبة الرئيسية فى القاهرة الكبرى بصفة عامة والجيزة بصفة خاصة حيث مكتبتنا الرئيسية. إن مصر لم تبخل على مكتبة الإسكندرية بل قدمت لها ومازالت تقدم لها الكثير رغم ظروف الميزانية الصعبة وبدورها فإن مكتبة الإسكندرية التى أصبحت مكتبة للعالم آن لها أن تصبح أيضا مكتبة لمصر. يأتى الدكتور مصطفى فى هذه المرحلة المهمة والدقيقة التى يحتاج فيها الوطن إلى كل شعاع للتنوير يعم على بر مصر لتكسب مصر معركتها مع الإرهاب ليس فقط من خلال المواجهة المسلحة، ولكن أيضا من خلال الفكر والتنوير، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون!. لمزيد من مقالات سفير عبدالرءوف الريدى