تتداعى الأحداث الجسام على صعيد هذا الوطن الصامد فلا تزيده إلا قوة فوق قوة ورفعة فوق رفعة وصلابة فوق صلابة، ذلك أن مصر ليست مجرد دولة على الخارطة العالمية، بل هي مركز الحضارات التي تشكلت من حولها كل حضارة، ولو تدبر أعداء مصر تلك الحسابات الدقيقة والأقدار الخفية التي تتجلى على أرض مصر لعلموا يقينًا أن صنيعهم إلى بوارهم لا إلى بوارها، وأن سعيهم إلى هلاكهم لا إلى هلاكها،وإذا أردنا أن نستجلي سر هذا الوطن ونستخرج مكنون حضارته وسر حفظه وصيانته، فلننظر إلى قسمات جبين هذا الشعب الآمن قلب المستريح ضمير المتزن وعيا وإدراكًا لنعلم يقينا أن الإنسان المصري هو صانع هذه الحضارة وباني مجدها التليد، وأعظم مزية يتميز بها الإنسان المصري عبر التاريخ أنه إنسان – على شدة تمسكه بدينه ومحافظته على شعائره – إلا أنه في نفس الوقت متسامح دينيا متسع الأفق فكريا سام أخلاقيا لا يعرف التعصبَ ولا منابذةَ الآخرِ، فضلًا عن معاداته أو إرهابه أو الاعتداء عليه بأي صورة من الصور المادية أو المعنوية، هذه خصيصة نادرة فريدة في الشعوب، وقد أشارالنبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المزية للمصريين بقوله: فإن أهلها في رباط إلى يوم القيامة... ولنلاحظ أن هذا البيان النبوي كان قبل دخول الإسلام إلى مصر بعشرات السنين، أي في وقت كانت تتعدد فيه الأديان في مصر ما بين مسيحية ويهودية، عاش المصريون وقتها في سلام وتكاتف ولم يعكر صفوهم إلا الغزو الروماني الذي اضطهد المسيحيين المصريين وظلمهم ظلمًا بالغا ولقي مقاومة مشهودة من المصريين آنذاك، ولما دخل الإسلام بسماحته إلى مصر أزاح من على كاهل مصر والمسيحيين ظلم الطغاة الرومان وأمن المصريين على دينهم وأموالهم وكنائسهم وامتزج المسلمون بالمسيحيين في منظومة متناغمة حفظ التاريخ منها صفحات مشرقة، وظل هذا التناغم والتسامح والترابط بين المسيحيين والمسلمين المصريين قرونًا عديدة يزيد من قوة نسيج الشعب المصري ويجعله متماسكًا رغم كثرة الشدائد والمحن والخطوب، إلى أن وفدت إلينا فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان لا تستند إلى كتاب ولا إلى سنة، تبث بذور الفتنة الطائفية وتعمل على تمزيق نسيج الوطن الواحد فتنوعت ما بين فتاوى تمنع المسلم من تهنئة المسيحي بعيده، أو تحريم إلقاء السلام عليه أو مشاركته في فرحه أو حزنه إلى غير ذلك من فتاوى الاستباحة والتفجير والقتل والتدمير والتفريق وقد تصدت المؤسسات الدينية ممثلة في الأزهر ودار الإفتاء والكنيسة المصرية إلى هذه الفتاوى وعملت بقوة على تصحيح المفاهيم في هذا الجانب، بيد أننا نحتاج إلى مزيد من الجهود والتعاون لنشر الفهم الصحيح للوحدة الوطنية، وهي الآن من أهم قضايا تجديد الخطاب الديني إن لم تكن أهمها على الإطلاق، بحيث لا نبالغ إذ نقول إن قضية الوحدة الوطنية وقضية المواطنة هي الخطوة الأولى الصحيحة في طريق تجديد الخطاب الديني، ولا شك أن تهديد الوحدة الوطنية هو تهديد للأمن والاستقرار الذي تنعم به مصر، وإن إلقاء نظرة عابرة على العالم من حولنا لكفيلة بأن توضح لنا تماما ما تفعله الطائفية الدينية أو العرقية بالشعوب، وكيف استهان البعض بقضية الحفاظ على وحدته الوطنية حتى خاض في غمار فتنة الطائفية فتمزقت الأوطان وهددت الأديان وشردت الشعوب وفُرض العنفُ والتشددُ ووجدت جماعات الإرهاب فسحة من الوقت لتنشر ما تريد من دمار وخراب، لابد أن نعيد النظر في ثقافتنا وفي موروثاتنا وفي مناهجنا وتراثنا، وأن نعيد صياغة ما يعكر صفو وحدتنا الوطنية على نحو صحيح وأن نستخرج من هذا المخزون الفكري ما يدعم وحدتنا الوطنية ويؤدي إلى متانة العلاقات القلبية والروحية بين المصري المسلم وأخيه المصري المسيحي بعيدًا عن فكرة مناقشة الأديان ذاتها فكل لها مجاله وتخصصه في ذلك، لقد كنا نرى في بعض قنوات الإعلام الخارجي المناظرات التي كانت تقول إن هذا الدين أو ذاك باطل فعل ذلك بعض الموتورين من الجانبين للأسف الشديد، وكنا نتابع هذا دون أن نلتفت إلى نتائجه ومآلاته المدمرة، وقل مثل ذلك أيضًا على بعض المحاولات الفردية لإخراج هذا أو ذاك من دينه وإدخاله في دين الآخر مما تسبب في حدوث فتن كثيرة مؤلمة، إن ترك هذه الأمور الوطنية المصيرية بيد الأفراد ذوي التوجهات الفكرة الخاطئة المتشددة كان سببا أكيدًا للوصول إلى ما نحن فيه الآن من استغلال الحالة الطائفية إلى محاولة شق الصف وإحداث الفتنة، إننا نحتاج إلى مزيد من نشر أسباب المحبة والمودة والتعايش بين أفراد الوطن الواحد مع إقرار كل على دينه وما يعتقد ومواجهة أية أفكار وافدة تعكر صفو هذا التعايش وتعمل على تمزيق الوطن، لابد أن تتشكل هيئة خاصة للوحدة الوطنية تعمل على بناء الثقة والمحبة والمودة بين عنصري الوطن الواحد حفظ الله مصر وشعبها. مستشار مفتي الجمهورية لمزيد من مقالات د. ابراهيم نجم;