لايمكن بحال من الأحوال تجاهل مغزي التوقيت الذي اختارته تركيا لبدء غزوها لشمال سوريا بزعم منع الأكراد من السيطرة علي المنطقة فقد تحركت الدبابات التركية في اتجاه مدينة جرابلس السورية في يوم 24 أغسطس الحالي: و هو اليوم الذي كانت تحتفل فيه أنقرة بالذكري ال 500 لمعركة مرج دابق التي جرت علي بعد عشرات الكيلومترات فقط من جرابلس، وفيها انتصر العثمانيون علي المماليك بقيادة السلطان قنصوة الغوري ليبدأوا بعدها الزحف علي بقية الشام ومصر ويحكموا المنطقة بأكملها لعدة قرون تحت اسم الخلافة الإسلامية العثمانية . ومن يعرف عقلية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وطموحاته المعلنة باستعادة الأمبراطورية العثمانية، والتي من أجلها ركز كافة السلطات في يديه وبني قصرا أمبراطوريا جديدا به الف غرفة يدرك بسهولة أن إجتياح الدبابات التركية لجرابلس لم يكن مجرد رد فعل علي تحرك الأكراد في اتجاه المدينة لطرد داعش منها والسيطرة عليها وإنما كان عملا مبيتا ومخططا له منذ فترة وربما قام الأتراك برشوة داعش للانسحاب بالسرعة التي انسحبت بها فما أن ظهرت الدبابات التركية في الأفق وخلفها المئات فقط من عناصر مايسمي بالجيش السوري الحر حتي أخلت داعش المدينة عن بكرة أبيها وهو مالم يحدث في أي مواجهة سابقة لهذا التنظيم المتطرف مع اي قوة كانت، وكأنه كان المطلوب أن يكتمل النصر التركي في نفس يوم ذكري النصر العثماني علي المماليك والذي تم أيضا، كما يقول المؤرخون بالرشوة والخديعة . والمتابع للشأن السوري يعرف تماما أن الخطط التركية لابتلاع الشمال السوري، وتحديدا حلب، وهي العاصمة الاقتصادية لسوريا وأعظم محافطاتها علي الإطلاق جاهزة منذ فترة بحجة أن تركها في أيدي داعش أو سقوطها في أيدي الأكراد سيهدد الأمن القومي ليس لتركيا فقط ولكن للعراق وسوريا وايضا إيران بينما يعلم الجميع أنه لولا التاّمر التركي علي دمشق بزعم مساعدة الثورة الشعبية ضد الحكومة السورية لما خرجت حلب من سيطرة الجيش السوري لتتقاسم السيطرة عليها داعش والجيش الحر والكل يعلم أنهما حليفان لأنقرة بل ان الأولي صنيعة اردوغان شخصيا وعن طريق الحدود التركية السورية في حلب بدءا من جرابلس ووصولا إلي أعزاز كان الإرهابيون يتدفقون لمساعدة داعش وكذلك المال والسلاح أما الأكراد فهم لاعب جديد في حلب ولم يكن لهم إلا تواجد محدود ومحصور في عفرين أقصي غرب الفرات ولم يسمع العالم عن مطامعهم في حلب إلا في معركة السيطرة علي عين العرب كوباني في بداية العام الماضي كما جري تركهم عمدا خلال الشهور الثلاثة الماضية للعبور إلي شرق الفرات والاشتباك مع داعش في بلدة منبج حتي يظهر وكأن لهم أطماعا في حلب فتضطر تركيا مشكورة للتضحية والتدخل لإنقاذ درة التاج السوري والبقاء فيه لحمايته من مطامع الأكراد وداعش معا بينما يعرف أي طفل سوري أن تركيا التي سبق أن اقتطعت أجزاء من حلب وتحديدا لواء الأسكندرون وغيرت أسمه إلي إقليم هاتاي هي الطامع الأكبر في كل حلب وسبق أن طرحت خططا لجعلها منطقة اّمنة، ولكن المجتمع الدولي رفض هذا المطلب في حينه خاصة في ظل الرفض الروسي له ولكن تغير التحالفات مؤخرا واعتذار أردوغان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إسقاط الطائرة وإعلان إنقرة عن استعدادها للقبول ببقاء بشار الأسد في السلطة جعل موسكو تتغاضي عن المطامع الأردغاتية في حلب في مقابل استعادة ما تبقي من سوريا وهو أيضا ما دفع الأمريكيين للصمت خشية ارتماء تركيا أكثر في أحضان الدب الروسي مما يعني شق صف حلف الناتو، الذي تنتمي إليه تركيا ويوجد علي أراضيها أهم قواعده الجوية والبحرية . وتشكل السهولة الفائقة التي سيطرت بها عناصر الجيش السوري الحر مدعومة بالدبابات والطائرات التركية علي جرابلس أكبر دليل علي أن داعش لم يكن إلا ورقة تلعب بها تركيا في سوريا وإلا فلماذا هرب من جرابلس في خلال عشر ساعات من بدء الهجوم وهو يعرف أن المدينة تمثل أخر نقطة له علي الحدود الخارجية لسوريا وعن طريقها كان يحصل علي الإمدادات البشرية والمادية كما ينطبق الأمر ذاته علي الأكراد وكأن الجميع كان يشارك في تمثيلية تنتهي بضم حلب لتركيا لأنه بمجرد صدور الأوامر من أنقرة لقوات سوريا الديمقراطية المكونة أساسا من ميليشيا قوات حماية الشعب الكردية بالعودة إلي شرق الفرات حتي غيرت من مسارها بعيدا عن جرابلس وربما تنسحب ايضا من منبج، التي احتلتها من داعش بعد قتال استغرق أكثر من شهرين واسفر عن قتل 1100 من عناصر داعش. ومهما كانت تركيا تتحجج بالمخاوف من الأطماع الكردية لكي تحتل جرابلس ولذا عملت علي إقامة منطقة حزام أمني بطول 70 كيلو مترا وبعرض 15 كيلو مترا في حلب بدءا من جرابلس وصولا إلي إعزاز غرب الفرات فان الجميع يدرك أن أنقرة دخلت ولن تخرج و قررت الاكتفاء بحلب أو علي الأقل شمالها الذي سبق أن زرعت فيه أقليتين تركمانية و شركسية لكي تتوقف مؤقتا عن حربها الشرسة ضد بشار الأسد وتتفرغ لمشاكلها الداخلية .