من أراد أن يري الأقصر تمشي علي الأرض، فلينظر إلي أحمد شمس الدين الحجاجي. في كل كتاب له تري بعض ملامحه الإنسانية، والفكرية. في شبابه غادر الأقصر إلي القاهرة واهبا مستقبله للمسرح الذي يحبه. وبعد إنجاز دراساته العليا، سافر للعمل في كوريا، وأمريكا، والبحرين، وبروناي، وتأكد له في كل هذه الأماكن أنه « ابن التراث الشعبي»، وأنه منذور لمهمة أخري، أكبر من كل ما خطط له. فسعي خلف الأساطير الشعبية، يكشف الخفي منها، ويصحح المفاهيم، ويجمع السيرة الهلالية، ويدافع عن رُواتها، ويحدد قوانين لدراستها ويؤصلها في كتبه. حتي بات هو نفسه سيرة « للذين لا ينحنون إلا لله»، حاملا إرث أجداده، من بُناة معبد الأقصر، ومسجد «أبو الحجاج»، ومدارس الأقصر، مكملاً طرائقهم في إفشاء المحبة، وإشاعة السماحة بين الناس. بيتك مبني علي طراز معماري فريد.. يغلب عليه الطوب الأحمر، والمدخل والقُبَّة والمَضيفة كلها تضفي أفقا رحيبا، تعمقه الشجرة العامرة بالعصافير في باحته، فهل لهذا المكان علاقة بروايتك « سيرة الشيخ نور الدين»، فأيهما انعكس علي الآخر؟ هذا بيت أبي الذي تربيت فيه، جزء من تاريخنا، وكان لا بد من بنائه بطراز شعبي، وقمت بتصميمه مع الدكتور عبدالحليم محمود، خاصة القباب والأعمدة، وجزء كبير منه بالطوب كما رأيت، وأقيم بيد بناءين متخصصين، وأعمدته تترك في قلبي رهبة، ولفتت انتباهي إلي رهبة أعمدة المعابد المهيبة، والآن أسافر إلي الأقصر خصيصا لأجلس بضعة أيام علي أوقات متقاربة. ولدت وسط أهم الآثار التاريخية، والأساطير الشعبية، والأجواء الصوفية، فلأي مدي انعكس كل هذا في تكوينك؟ بالفعل ولدت مع الأسطورة، بالقُرب من معبد الأقصر، وحياة المدينة كلها مرتبطة بالمعبد، والأقصر هُدمت عدة مرات أوائل القرن العشرين، واستمرت الأجزاء المجاورة ل « أبوالحجاج» حتي 1968، ثم هُدمت الجبانة، وبعدها جامع المقشقش في الثمانينيات، وكله كان بداخل المعبد، وتفتحت عيني علي جو ديني، مثل حلقات ذكر المتصوفة، والسير الشعبية التي كانت يرددها رواة كثر، وعشت هذا كله، ولم أفكر بالتخصص في هذا المجال، وكنت أتحدث مع أستاذنا الكبير الدكتور «عبدالعزيز الأهواني» عن «الموال القصصي الشعبي» مثل «حسن ونعيمة»، و«أدهم الشرقاوي»، و«الفتي زهران»، و«شفيقة ومتولي»، وكان الأهواني معجبًا به جدا، وكان « أحمد رشدي صالح» يحدثني عن علاقته بالأهواني، وكيف وضَّح له موال «أدهم الشرقاوي»، لكنني لم أكن مهتمًا. وطلبت مني الدكتورة «سهير القلماوي» أن أعمل في «مركز الفنون الشعبية» الذي افتتح أوائل الستينيات، براتب 25 جنيها، ورفضت مع أنني كنت أعمل مدرسا بستة جنيهات، واهتممت بالنقد المسرحي، وعملت علي النصوص القديمة، لكني اكتشفت أنه لا يمكن فهمها إلا بفهم التراث الشعبي. والحقيقة أن المسرح والأدب الشعبي وحدة متكاملة، والأسطورة نفسها فُرجة شعبية، والمسرح ولد من الأسطورة الشعبية، والأغنية الشعبية والراوي جزء أساسي. وكان اختياري «موضوع الأسطورة» للماجستير مخاطرة، لأن الأسطورة وقتها كانت تعني عند الناس «الأباطيل والكذب»، وكان أمامي نصوص مسرحية عن سيدنا سليمان وأهل الكهف، فهل يمكن أن أسميها أساطير، وبالبحث وجدت أن القرآن يقول « أساطير الأولين» بمعني دياناتهم، وليس القصص الكاذبة كما ذهب مفسرون، فوجدت نفسي أمام هذا المعني. أراك تعيش التراث الشعبي بين الناس كما تدرسه؟ ألبس الجلابية وأسير بها في الأقصر، ولم أفارق أهلي الحجاجية، لأني جزء من بنية هذا المجتمع، ونحرص علي تراثنا، ونستعد قريبا لمولد «أبوالحجاج»، وكل فرد من الحجاجية يتأهب في هذا الأسبوع لاستقبال أصدقائه، وقد اختارني الحجاجية عميدًا للعائلة الشعبية، ولن أترك هذا التراث أبدًا. شغلك المسرح في البداية، وقطعت شوطا في دراسة وكتابة النقد، لكن الأدب الشعبي اجتذبك في النهاية، وجعلك من فرسانه، متي حدث هذا التحول؟ حين درست المسرح اكتشفت أنه ابن عناصر الفرجة الشعبية، وفي كتاب لي سيصدر قريبا « استلهام الأسطورة في الأدب الشعبي» أتناول معني الرواية الشعبية، ولطالما طالبت بدراسة رواة الأدب الشعبي، لأنهم حُماة التراث، والراوي مبدع لأنه يتدخل عادة بكلمة أو بجملة هنا وهناك، لابد أن يغير و يضيف. كيف اكتشفت علاقتك الوطيدة بالتراث؟ في سول اكتشفت أن كوريا كلها تعيش التراث الشعبي والأسطورة، وزرت قري كثيرة جدا هناك، أكثر مما فعلت في مصر، واكتشفت أن عشرين بالمائة فقط من الكوريين تقريبا لهم ديانات، لكنهم جميعا يؤمنون بالأسطورة، فلا يمكن أن تجد شخصًا ليلة رأس السنة يسير في الشارع، لأنهم يزورون مقابر أجدادهم ويصلون ويدعون ويذكرون مهما تكن ديانتهم، ورأيت عبدة الطبيعة والبوذيين، وأدركت أن الأسطورة دين، وطلابي ساعدوني في هذا لأنهم كانوا يدعونني لزيارة قراهم، ورأيت كل شيء، حتي لاعب العرائس الذي يشبه الأراجوز، والطريف أنني رأيت مسرحية عرائس تسخر من رجال الدين البوذي الذين يضحكون علي الناس ويسلبون أموالهم باسم الدين. في بحثك عن الأسطورة اجتذبتك السيرة الشعبية، فما أكثر ما شد انتباهك إليها؟ ظلت الأسطورة تشغلني إلي أن ذهبت لجمع السيرة الشعبية من قنا، ووجدت الناس يعيشون السيرة الشعبية، واكتشفت أنها أساس وصانعة الرواية، وما يقوله النقاد عن أن الرواية غربية ليس حقيقيًّا، فالرواية بنت السيرة الشعبية، ولو نظرنا في الروايات الأولي لن تخرج عن كونها سيرة، فرواية «زينب» ل «محمد حسين هيكل» سيرة «زينب»، والثلاثية سيرة «آل عبدالجواد»، ولو تتبعنا «نجيب محفوظ» لوجدنا أن «أولاد حارتنا» سيرة، و«الحرافيش» سيرة متكاملة وليست ملحمة كما سماها، ولإيماني بأن السيرة أم الرواية جعلت اسم روايتي «سيرة الشيخ نور الدين». علي ذكر «سيرة الشيخ نور الدين» لماذا كتبت علي غلافها «يرويها أحمد شمس الدين الحجاجي»؟ قصدت أن أعيد السيرة الشعبية إلي أذهان الناس، فالشيخ «نور الدين» بطل شعبي، قاوم الفقر والمرض والدنس والاحتلال، وتنطبق عليه كل قوانين البطل الشعبي، وحين عملت بالسيرة اهتممت «بقانون السيرة الشعبية» ماذا تقصد ب « قانون السيرة الشعبية »؟ للسير الشعبية قوانينها، فإذا أردت أن تكتب سيرة لابد أن تعرف قوانينها، وتدرس أصولها، فلدينا حلقات للسيرة، أولها ميلاد البطل، وتبدأ قبل الميلاد، وإلي زواجه، ثم مرحلة البحث عن دوره المهم، فالبطل يخرج للبحث عن دوره، ثم قيامه بالدور بدخوله معارك كبري، ثم ما بعد البطل، ولو طبقنا هذا علي السيرة الهلالية فسنجد ميلاد «أبو زيد» وما قبله، وما أحاط بمولده من حكايات، وتستمر حتي يعود إلي قومه، ثم الريادة التي يرود فيها أبو زيد تونس وأبناء أخته لمعرفة أحوال تونس وأخبارها، ثم الوقوف علي أسوار تونس وهي التغريبة، ثم الحلقة الرابعة "الأيتام" وماذا حدث لهم، والباحث الغربي « فلاديمير بروب» له دراسة مهمة عن «شكل الحكاية الشعبية»، لكن لا يمكن تطبيق كلامه إلا علي حكايات الجن والشياطين، ولا يمكن تطبيقه علي السيرة، لذلك عملت دراستي عن بنية السيرة في كتاب « مولد البطل في السيرة الشعبية ». في كتابك هذا قارنت بين مختلف السير الشعبية في نطاق ولادة البطل الشعبي، فهل يشارك الناس في صناعة بطلهم الشعبي، أم أنهم مجرد متلق سلبي يترقب ظهوره ويحتفون به في لحظات تاريخية معينة؟ الحقيقة أن البطل الشعبي ابن جماعته الشعبية، والجماعة الشعبية ليست متلقية، وإنما هي التي تصنع بطلها، وسيظل « أبو زيد والزناتي والجازية وعزيزة أحياء»، لأن الجمال ممتد، وراوي السيرة مبدع، لكنه يهتم برغبات الجمهور، لذلك تتعدد الروايات للموقف الواحد، وخذ مثلا آخر، لماذا لم يقتل أبو زيد الزناتي خليفة؟ لأن الجماعة الشعبية ترفض ذلك، فأبوزيد من قبيلة تمتد من أسيوط حتي أقصي الصعيد، والزناتي ينتمي للزغابة وهم في المناطق نفسها، وقتل الهلالي للزناتي كان سيثير حروبًا وضغائن، من هنا كان الحل أن يقتل دياب الزغبي الزناتي الزغبي لمنع الثأر، كما أن الزناتي هو البطل الحقيقي في السيرة، ولم يكن بإمكان الراوي جعل الجمهور يكره أبو زيد لقتله الزناتي، والجمهور لا يحترم دياب لأنه خائن، فقتل الزناتي علي يد دياب منطقي. هل يمكن أن تموت السيرة؟ السيرة لا تموت.. بل تتكسر إلي حكايات، فإن استمرت شعرًا تصبح ملحمة، أما النثر فهو حكايات، و«الإلياذة والأوديسا» جزء مما يمكن تسميته «سيرة بني اليونان»، ولو طبقنا عليها قانون السيرة لوجدنا ميلاد الأبطال غير مذكور في هذين الجزءين، لكن هناك الجزء الخاص بالأيتام، ونجد هذا وذاك في مسرحيات أخذت من الحكاية الشعبية التي تبقت من الجزء الرابع. إذن الأسطورة، والتراث الشعبي، والدين, كلها مكونات لوجدان الجماعة الشعبية، وأذهان الأشخاص كحالات فردية، فكيف تري تاثير هذه المكونات علي الشخصي والعام؟ هناك شيء مهم، الأسطورة شكلت الوجدان المصري كله طوال تاريخه القديم والحديث، الإنسان المصري ابن الأسطورة. حتي من لا يؤمنون بها هم أبناؤها، فالأسطورة ليست الكذب ولا المغالاة، لكنها دين، واعتقاد انسانى، لذلك لا يمكن أن نقول لإنسان يؤمن بأسطورة «هذا كذب»، ولا أستطيع أن أفهم الإنسان إلا من خلال الأسطورة، ولا بد أن ننظر إلي البشر من زاوية أين أسطورتهم، لأن الأسطورة علم، والتراث الشعبي المصري لا تستطيع فهمه إلا من خلال الأسطورة، السير الشعبية والأغنيات والحكايات لا يمكن فهمها إلا من خلال معرفة أساطير المصريين، والأسطورة قد تتسبب بسعادة الإنسان كما فعلت في «سيرة الشيخ نور الدين». اختلفت نظرتك لأدب «الطيب صالح» وأنت تدرس روايته «عرس الزين» في أمريكا، فكيف أعدت قراءته من زاوية التراث؟ درست هذه الرواية بالإنجليزية في جامعة بنسلفانيا، وحقيقة لم أكن أحبها واعتبرتها حكاية شعبية تافهة، وعندما ذهبت لجامعة نورث كارولاينا، كان علي تدريس كورس «الدين والحياة»، واخترت روايتين.. « قنديل أم هاشم»، و« عرس الزين»، بجانب حكاية من «ألف ليلة»، واكتشفت من هذا المدخل أنها عالم مليء بالعطاء، وقلت إن زواج الزين هو مولد لإعلان ولاية الزين وأنه يحل محل القطب، وهذا فتح لي عالم الطيب صالح، لأقرأ نص «دومة ود حامد»، وهي رحلة كبيرة في الأسطورة، وعن دور الولي لأن الناس تعتقد أن روح الولي فاعلة، أما قصة « مريود وبندر شاه» فهي عن كائن يخرج من النهر ويعيش ويموت فيه. هل لمكونات الثقافة الشعبية تأثير إيجابي في قدرة الناس علي مواصلة الحياة؟ دون التراث الشعبي والحكمة الشعبية والأسطورة الشعبية نموت، فنحن نعيش بأساطيرنا وحكاياتنا الشعبية، في مولد السيدة زينب والحسين، يأتي الناس بخيرهم فيذبحون ويوزعون علي الجميع، ماذا نريد أكثر من هذا؟ أليست هذه الاشتراكية؟ أليس هذا هو التكافل؟ سببه إيمان الناس بتراثهم وأساطيرهم. لماذا تظلم الدراسات الشعبية في الجامعات المصرية إلي الآن، علي أهميتها، وما دور آداب القاهرة في دعمها ؟ الأستاذ العظيم «أمين الخولي» رحمه الله أول من أدخل الدراسات الشعبية تحت اسم «الدراسات الإقليمية» إلي الدرس الأكاديمي، وكان أول أستاذين يعملان بها « عبد الحميد يونس»، و«فؤاد حسنين»، وأول «كرسي للأدب الشعبي» كان في جامعة القاهرة، والحقيقة كلنا أولاد «عبدالحميد يونس» الذي فتح آفاقا لدراسة الأدب الشعبي، لكن هذا تراجع جدا الآن، فهل يعقل أن جامعة المنصورة ليس فيها سوي معيد واحد؟ وسوهاج بها أستاذ واحد، وكذلك بني سويف وجنوب الوادي، نحن نحتاج مراكز عديدة للتراث الشعبي، وقد وافق الدكتور «جابر نصار» علي إنشاء «مركز التراث الشعبي» في جامعة القاهرة، ولدينا أساتذة متخصصون في جمع التراث، لدينا الدكتور «خالد أبوالليل» دارس الهلالية، والدكتور «خضري أبو الليل» للأغاني الشعبية، ولا أظن أن سياسة غلق الأبواب في وجه «الأدب الشعبي» ناجحة، فعلي الجامعات أن تفتح أبوابها، فالسير الشعبية جزء من الأدب العربي، ولننظر إلي تاريخ اليونان حيث كان الملوك يحفظون أبناءهم الإلياذة والأوديسة، وتدرس الآن دراسة أكاديمية في الجامعات الغربية.