عندما شرعت في محاورة الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي، هذا العَلَم الكبير في مجال الدرس الأدبي، والنقدي والذي طالما عرفه الوسط الأكاديمي بأنه أستاذ المسرح والأدب الشعبي، وجدت نفسي أمام ثائر يحمل هما في رأسه، عاشته وتعيشه مصر الآن!! ولكنني لم أكن أعرف نسبة الحماس للهم السياسي، الي الحماس للهم العلمي والأكاديمي. لقد اكتشفت أن الهم الأول هو الأكثر الحاحا علي وعي الرجل واهتمامه، وكم مرة حاولت أن أثنيه عن حديث السياسة لانتزع منه الكلام انتزاعا من قضايا الأدب، والنقد، ولكن كان - ذلك - يتم بصعوبة، لأن هم الوطن عند الرجل، أكبر فيما أعتقد من هَم الأدب والنقد والمسرح والأدب الشعبي. ذهبتُ اليه وفي ظني أنني سأسمع منه عن الأسطورة وعلاقتها بالمسرح والأدب، ما لم أسمعه أو أقرأه من قبل، فإذا بي أجد الواقع أكثر سيطرة واستيلاءا عليه من كل أساطير العالم وحكاياته. ما لم نعرفه عن الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي، غير أنه تلميذ طه حسين، وسهير القلماوي، وأستاذ الأدب والنقد (رسالة الماجستير في النقد المسرحي في مصر، والدكتوراه عن الأسطورة في المسرح المصري المعاصر)، وروائي مبدع، أعد نفسه ليكون كاتبا وأديبا متسلحا بالخبرة والمعرفة، مما مكنه من انجازات تراث ضخم في السيرة الشعبية، كماكان له اليد الطولي في الفن المسرحي والرواية العربية، - فهو أيضا - قائد ثوري، يتقدم مظاهرات الطلبة، داعما ومؤيدا لكافة حقوقهم. المحكمة الكونيه تحكم العالم الآن قوي اليسار تحولت إلي كوميديا وقوي اليمين أصبحت تراچيديا أسطورة مصر هي .. » مَلَكيتها « وحضارتها وفنونها أسرار أسطورة الخضر ومار جرجس يا شيوخ السياسة .. توقفوا عن اللعب بشبابنا الأسطورة في مصر القديمة من هذا المنطلق آثر د.شمس، في حواره مع »أخبار الأدب« أن يبعدنا عن الأدب، ولو قليلا، ليقدم شهادة تاريخية ربط فيها بين الأسطورة والسياسة. فقال: الأسطورة هي أم الفنون، وهي أم الانسان والوجود الحضاري كله بدأت عندما تكاملت رؤية الانسان، والأسطورة صنعت الحضارات كلها، ليس هناك حضارة بدأت دون أن يكون أساسها أسطورة. لو نظرنا الي الحضارة المصرية كلها، لوجدناها مبنية علي الأسطورة، فالأسطورة ليست هذ الكذب أو الخرافة، وانما عقيدة متكاملة، بنيت علي ثلاثة عناصر: التكوين، وهو بدء الوجود، والقوة الخالقة "الله" التي أوجدت هذا الوجود، ومع وجود الكون، كان العنصر الثاني وهو حياة الانسان في هذا الوجود، وقد تعايش مع هذه الحياة من خلال ضرورة أن يتعامل مع الآخر، وأن يبني عالمه ويحاسب عليه، وتكونت العلاقة بين الانسان والانسان، والانسان والأشياء التي حوله، من حيوان وجماد علي هذه الأسطورة، وبعد أن تنتهي حياة الانسان علي هذه الأرض تكتمل الأسطورة بالمصير، وبناء علي حياته علي هذه الأرض يحاسب علي فعله. اهتم الانسان بحياته الدنيا، وربطها بمصيره فنحن جميعا نفكر في المصير بعد الموت، من هنا تشكلت الدولة، وكل ما تكاملت العلاقة، وفهم الانسان لتكوينه والوجود بنيت حياة الانسان. ففي مصر ربط الوجود بالقوة العليا، ومثل الانسان علي هذه الأرض صورة للتكوين، فجعل من الملك هو القوة التي تحمي الوجود، ومن هنا تكون فنه بكل أنواعه. لم يبق بعد ذلك إلا الحساب علي الفعل البشري، وامتد الانسان الي هذه الأرض، وكونت مصر ملكيتها مبنية علي مفهوم العدل، وهي القوة الأولي التي تحمي الانسان من أخيه الانسان، وحتي من قبضة القوة الكونية عليه. وأصبح العدل أساس الملك، وتطورت الحياة الانسانية تطورا كبيرا، ظهر الفن الذي صدر عن المعتقدات الكونية التي كانت مقدسة، فالمقدس هو صلوات الانسان والفن هو حسه الحقيقي في هذا الوجود الذي عبر عنه خارج دائرة معابده. واستمر الوجود، طبيعي خرج كثير من الحطام عن دائرة العدل وتكونت الطبقات التي خرجت - أيضا - كثيرا عن دائرة العدل، فجعلت من الناس درجات لكل درجة دورها ومكانها، وكثيرا ما فقد العدل.. مصر فقدت ملكيتها أكثر من مرة، وفقدت عدلها. ويواصل د.شمس شهادته: مصر القديمة مرت عليها فترات كثيرة حكمها الهكسوس وحكمها اليونان والرومان، ولكنها ظلت ثابتة في اقامة العدل فانفصلت مصر عن الدولة الرومانية بالمسيحية، فكان لها معتقدها الخاص الذي اختلف عن حكامها، ثم أصبحت مصر اسلامية، وقاومت حكامها حتي صنعت دولتها، واذا نظرنا الي العصر الحديث، سنجد أن بعض القوي الاسلامية، استغلت الدين، كما حدث أيام الأتراك وبنيت الدولة، وصارت الدولة مسارات متعددة تقاوم، ولعل أعظم مقاومة كانت هي ثورة عرابي، لكن ثورة عرابي لم تنجح، لأنها أقيمت بمرشالات الجيش المصري، ضربت من الداخل، والخارج، وعاشت مصر تترنح تحت حكم الانجليز، وقاوم المصريون، حتي قامت ثورة 1919، وكان يمكن أن تنجح، لولا الاختلافات الكثيرة التي حدثت بين قياداتها، وتعثرت وحاولت أن تقوم، وبدا أن هناك تطورا لتحقيق الديمقراطية. الاسطورة لا تعيش إلا بالحرية، فحين تضيع الحرية تزيف الاسطورة ويزيف الدين، وتزيف كل المعتقدات التي يعتنقها الانسان. حتي قام انقلاب 1952، وكان انقلابا في التصور، وامتدادا لحركات التحرير التي كانت في مصر ، الأساطير في مصر، فهو القادم من بغداد، وعمل رحلته الصوفية الي مكة، ومن مكة الي المغرب، قابل فيها الشيوخ "أبومدين التلمساني" ومنها يعود الي القاهرة ثم الي قنا، في الأقصر، ويبقي في الأقصر صوفيا، زاهدا يعلم طلبته التصوف، ساكنا فوق معبد الأقصر القديمة، ويقيم مسجده فوقه. عشت في اسطورة أبوالحجاج وكان أجدادي كلهم من شيوخ التصوف، وكان أبي مفتي طريق الشيخ أحمد الطيب، ولدت في هذا الجو، وكانت ساحة الحجاجية التي كتبت عنها "سيرة الشيخ نورالدين" في قلب المعبد، ومكانها الآن بجوار مسلة معبد الأقصر، فكيف يمكن أن تضيع هذه الأشياء من ذاكرتي، وطبيعي تعلمنا احترام أهل الطريق، ورجال الدين، وكان أول كتاب قرأته هو القرآن الكريم، وكان الكتاب الثاني هو الانجيل، قرأته في سن ال(15) ثماني مرات، وكنت أقرأه مع صديق مسيحي، يقرأ معي القرآن، وأنا أقرأ معه الانجيل ولم تتركني هذه القصص التوراتية، وأنا أقارنها مع قصص القرآن الكريم في هذه السن الصغيرة، وآمنت أن القرآن حق، وأن الانجليل حق، وأن لكل انسان عقيدته التي هو حق، والتي يؤمن بها، فلم أفرق بين مسلم ومسيحي. وفي رحلتي الي كوريا، التقيت هناك بالبوذيين، وتعلمت دينهم، وصمت صيامهم، والتقيت بالشامان وعبادتهم للطبيعة، وآمنت بأن الأسطورة هي أصل الانسان، فهو لا يعيش إلا بالاسطورة وعرفت - هذا - قصة العدل والحق. المحكمة الكونية قلت في أحد أحاديثك بوجود محكمة كونية تحكم العالم، فما هي فلسفتك لهذه الظاهرة؟ كان مجتمع الأقصر المتدين يتكلم عن الخضر عليه السلام ويتكلمون عن المحكمة الكونية، التي يقودها سيدنا الخضر، ثم كانت علاقتي بالمسيحيين، والتي عرفت من خلالها "ماري جرجس" الذي يمثل الصورة المسيحية للخضر عليه السلام، ومن قراءتي للتفسير عرفت أن بعض المسلمين يؤمنون أن ماري جرجس هو نفسه النبي الذي أرسله سيدنا عيسي ليحدث عنه في سورة (يس)، والغريب أنني وجدت محكمة يقودها الخضر، وكيف انه يقيم العدل، ووجدت أيضا أن ماري جرجس يركب فرسه، فإذا وجد مظلوما، فإنه يدافع عنه، وكان هناك معتقد أن بعض الدين يمنحون القوة، يمنحها الخضر لهم، وفي دراستي للسيرة الشعبية، عرفت أن الخضر يمثل البطل المنقذ. المدافع عن الحق لأبطال السيرة، هو الذي أنقذ خضرة من أرادوا اغتصابها، نفس هذه الأسطورة يمكن أن تجدينها في ماري جرجس عند المسيحيين. رحلتي مع الخضر وماذا عن رحلتك مع سيدنا الخضر عليه السلام، وهل هو رمز أم حقيقة تاريخية؟ هناك آراء تتحدث عن الخضر مانح الفن، فهو الذي نفخ في فم "جابر أبوحسين" ليقول لنا هذه السيرة التي اشتهر بها، ولم يدانيه فيها أحد.. قد حاولت - وأنا في أمريكا - أن أكتب كتابا عن سيدنا الخضر عليه السلام، وعشت زمنا طويلا أفكر فيه، حتي فاجأني الدكتور محمد أبوالفضل بدران بكتابه الرائع عن "الخضر في الأدب العالمي". فأسطورة الخضر مازالت تتحرك، والغريبة أن المتصوفة بنوا علما للمحكمة الكونية، بعضهم بناها علي أن قائدها هو الخضر، وبعضهم بناها علي فكرة "القطب"، فعالم المتصوفة يقسم الكون قسمين، القسم البشري المحسوس، والقسم الروحي، ففي القسم الروحي هناك حكومة تحكم العالم، كما يحكم العالم المحسوس حكومة، الحكومة الأرضية لها رئيس وحاكم، والحكومة الكونية لها رئيس وحاكم، وحاكمها يراه البعض هو الخضر عليه السلام، وفي رأي البعض الآخر هو "القطب" ومعه الامامان، ومعه الأبدال "الأولياء التسعة والتسعون" المرتبطون بأسماء الله الحسني، ثم الأولياء، وبعدهم الدراويش الذين قد ينتقلون من مرحلة الي مرحلة. وكان رأيي الشخص أن ثورة 25 يناير قد أحدثتها المحكمة الكونية، فما كان يمكن لأحد أن يتصور، أن حسني مبارك يمكن أن يرحل، ولا أن يتوقف جنرالات الجيش المصري عن الدفاع عنه، وأن ما حدث هو عدل كوني أسقط حسني مبارك الي الأبد، مبارك يدفع ثمن ظلمه للناس، واغتصابه لأموالهم وحقوقهم الانسانية والسياسية، وأن المحكمة الكونية قامت بهذا الدور. فهل توقفت المحكمة الكونية؟ لا.. لم تتوقف، ولكنها تركت الناس ليتعلموا الدور، فلم يحكموه، ومازال الحساب مستمرا.. وأقول للذين يساهمون في تدمير الشعب المصري، وتدمير ثورته، المحكمة الكونية مازالت تعمل، وهي أكبر بكثير من المحكمة الأرضية بكل قدرتها، وبنايتها والحكام الذين يساندونها، والجنرالات الذين تحتمي بهم، وأكبر رجالات الصحافة الذين يعبث بعضهم بهذا الوطن ويحولونه الي سخرية، وكوميديا أرضية، لازالت المحكمة تعمل وصدقوني أنها تعمل، فمتي يصدرالحكم هذا قضاء الله، ولكنه سيصدر، أهل الله مازالوا يعملون، وعيونهم علي أهل السياسة، وأهل الاقتصاد والفاسدين. في انتظار البطل هل نحن في حاجة الي بطل شعبي يقودنا؟ الأدب الشعبي خلق أبطاله، والغريب أنني لا أنتظر - الآن - بطلاً شعبياً يقود الجماعة ولكن أنتظر "البطل الجماعة"، الجماعة التي تنجح لتصنع بطولتها، وتصنع تعبيرها، "أبوزيد الهلالي" لم يكن بطل فرد، ولكن كان بطل جماعة، الخوف أن البطل الجماعة يمكن أن يزيف بالقيادات السياسية التي تريد أن تتكسب من علاقتها بالجماعة، والتي تصرخ الآن متصورة أن بزعيقها تصنع زعامة شعبية، ومتصورة أن بصرخاتها وشكايتها تصنع ثورة.. انها في الحقيقة تفقد الشباب احترام الآخر، ويعيش كل انسان كارها للآخر. الزعامات في مصر تكنولوجيا، استطاعت أن تصنع الكراهية السائدة في مصر، والكراهية لا تولد فنا، فهي التي صنعت القنبلة الذرية، وصنعت الدبابات والمدافع، والحروب، والحب هو الذي يولد الفن، والسلام والطمأنينة، فلندعو الله أن نصنع تكنولوجيا ترتبط بالحب لا بالكراهية وأن نصنع ملكية ديمقراطية، تحمي مصر من غول الاستبداد وعبادة الفرد، وأن تقود شبابنا الي أن يحكم بالديمقراطية، وأن يتوقف الشيوخ عن اللعب بشبابنا.