من صفات الإبداع الشعبي الجهر بالمسكوت عنه، فيشير إلي مواطن الخلل صراحةً، ويلح في إشاراته المعترضة عبر الحدوتة والعدودة والأغنية والمثل، لأنه لا يقبل الظلم الاجتماعي حتى لو تواطأ المجتمع وأضفى مشروعية، ومن أشد مظاهر هذا الظلم الاجتماعي في الأقاليم المصرية المختلفة، الإصرار على عدم توريث البنات، ومحاولة تسويغ هذه الظاهرة المقيتة بتقديم تبريرات تتكيء على الدين تارة وعلى العرف والموروث تارة أخرى. فالميراث الذي يتركه الفرد من أموال وممتلكات لورثته بعد موته، يشكل "عنصرا مهما في التنظيم الاجتماعي، خاصة في المجتمعات التي تولي عناية خاصة لتراكم الملكية، مثل ملكية الأرض أو الماشية أو الحيوانات أو النقود أو أي شيء له قيمة، ويمكن الاستحواذ على هذه الملكية أو نقلها عن طريق الروابط القرابية أو عن طريق الأفراد"..(راجع: شارلوت سيمور سميث: موسوعة علم الإنسان، ص"735".). ويطلق على الميراث لدى الجماعة الشعبية كلمة: "الوِرث"، وفى لسان العرب "الورث والإرث والتراث والميراث: ما وُرِّث"، ويرتبط بخط النسب، فالثروة تنتقل في خط الذكور، فيتولى الابن الأكبر الوارث مركز أبيه وسلطته، غير أن تفكك الأسر الممتدة - خلال الثلاثين عاما المنقضية - وتحولها إلى أُسر نووية، أدى إلى إحداث تغيرات في عملية انتقال الثروة لدى الجماعة وكذلك إلى تفكك الملكيات الكبيرة، فالحفاظ على الملكية يعد أحد أهم أسباب بقاء واستمرار هذه الأسر الممتدة، وعندما تفتتت غالبية هذه الأسر، نتيجة للزواج من خارج البدنة، ازدادت جرأة البنات المتزوجات في المطالبة بميراثهن المسلوب. وكان انتقال هذه الثروة إلى غير الابن الذكر يعد من الأمور غير المقبولة اجتماعيا، والداعية إلى التحسر والألم خصوصاً في تلك الحالات التي يضطر فيها إلى توريث غير الابن، وذلك حين يتوفى الفرد دون أن ينجب ذكورا: "يا حزني على من مات ولا خلف في الدار ولد وماله ياخده الورّاث وهادا ليه وهادا لك يا حزني على من مات ولا خلفشي طاقية ماله ياخده الورّاث وهادا ليك وهادا ليه" ويتبدى نظام سلطة الأب في نظام توريث الأبناء لدى الجماعة الشعبية "حيث ينفرد الذكور الكبار في الأسرة بالتحكم واحتكار السلطة العائلية"، ومما يدعم هذا النظام في واحة الداخلة تقسيم القرية إلى "حِصَصْ"، وهو تقسيم أقرب لمفهوم البَدَنَة الأبوية، حيث يكون "الانتساب إلى الجد في خط الذكور". كما أن الجماعة الشعبية تولى "روابط الدم" عناية فائقة بدرجة تفوق الروابط القرابية، إذ تعتبر رابطة الدم أكثر تركيزا وحفاظا على الممتلكات من غيرها، وهذا ما أدى إلى حرمان البنات من الميراث، حتى وان ارتبطن بأفراد من داخل الجماعة القرابية. ويعكس المثل المتواتر ذلك المدى الذي يلعبه الحفاظ على ملكية الأسرة الممتدة في استمراريتها وبقائها: " تربى ولد ولدك يزرعك وتربى ولد بنتك يقلعك" وتطلق الجماعة اسم "المحرومين" على الأطفال الصغار سواء من الذكور أو الإناث، ممن لا يرثون آباءهم بعد الوفاة، أو بمعنى أدق، من لا تسمح الجماعة بتوريثهم أو بإعطائهم جزءا من ميراثهم، فمنذ ثلاثين سنة كان الأولاد الصغار والبنات لا يرثون إذا مات أبوهم في حياة الجد، ولا يعطون ميراثهم إلا بعد موته.. إذ يربون في بيت العائلة ويتكفل هذا الجد بإعالتهم، وبعد موته يقوم الابن الأكبر بالدور نفسه، وقد يقتسم ملكية الأرض مع أخوته الذكور، فيما لا ترث البنات إلا حُلى ومصوغات الأم في حالة وفاتها. وتبرر الجماعة الشعبية قيامها بعدم توريث الفتيات، بأن الإخوة الذكور يعيشون في منزل العائلة، فيما تنتقل الفتيات إلى بيوت أزواجهن.. فإذا كان هؤلاء الأزواج من خارج العائلة، فإن انتقال جزء من ميراث الأب إلى بناته يعد تفريطا في هذا الميراث، لأنه بالتبعية سينتقل إلى الأزواج. ولا تستهجن الجماعة عدم منح الفتيات حقوق الميراث الممنوحة لهن شرعا، فهي تعتبر إقامة الإخوة الذكور بمنزل العائلة ومراعاة الأرض، امتدادا لوجود الأب.. وغالبا ما يتدخل بعض الأفراد لإقناع الفتيات بعدم المطالبة بحقوقهن حرصا على صفاء العلاقات مع إخوتهن، ولكي يظل بيت الأب مفتوحا لاستقبالهن إذا ما لجأن إليه.. وهذا ما يفرض على الأخ أو الإخوة الوارثين عددا من الالتزامات الاجتماعية تجاه البنات، كالزيارة في المواسم والأعياد، والإعالة الكاملة في حالة تطليق إحداهن. وهكذا تبرر الجماعة قبولها بفكرة حرمان البنات من الميراث، على الرغم من مخالفته الصريحة للتعاليم الدينية، إذ ترى أنهن غالباً ما ينالن حقوقهن في الميراث في هيئة هبات من أطعمة وغلال وغيرها مما يتحتم على إخوتهن منحها لهن في المواسم والأعياد. وهكذا تتواطأ الجماعة الشعبية فتهبط بالحق الشرعي للبنات إلى منزلة الهبة أو الهدية التى قد يمنحها لهن الإخوة الذكور أو لا يمنحونها!!. وفى أكثر من حالة يوصى الأب قبل موته بأن يتم توريث البنت الوحيدة له، بحيث تحصل على "سهم" كامل مثلها مثل الذكور عند تقسيم التركة، ثم يتدخل الأهل لإقناع الفتاة بعدم تنفيذ وصية الأب والحصول على حقها الشرعي فحسب وهو نصف ما يحصل عليه الذكر. وربما كانت مثل هذه التوصية من جانب الأب المحتضر ترجع لمعرفته المسبقة بأن ابنته الوحيدة لن ترث ما لم يغال هو في وصيته، إذ يدرك أن أخواتها سيمنعون عنها ميراثها.. فيوصى بأن تمنح من الميراث مثل الذكور، وبذلك يضمن لها، على الأقل، حقها الشرعي، وذلك لأنها بدون هذه الوصية لن ترث شيئا أصلا. الأخت والغريبة وتكشف نصوص التعديد والأمثال المتداولة الخلل الذي ينطوي عليه عدم توريث البنات، بقدر ما يكشف أيضا نزعة الاحتجاج من جانب النساء ضد هذا الأمر، فالجماعة الشعبية ترتضى هذا النظام الذي يقضى به العرف المتوارث بحجة التزام الأخ أو الإخوة الوارثين، بعدد من الالتزامات الاجتماعية تجاه أخواتهم، ولكنها لم تضع بحسبانها أو تبتكر تقنينا للميراث في حالة وفاة الأخ، ففي هذه الحالة لن ترث الأخت في أخيها المتوفى، وسيؤول الميراث إلى زوجته وأبنائه، وقد يضاعف من تعقد الأمر أن تكون زوجة الأخ من خارج العائلة، وهو ما يجعل الأخوات يطلقن عليها اسم " الغريبة"، فتصف المعددة حالها عقب وفاة أخيها، وكيف أنها أرادت العودة إلى بيت أبيها فمنعتها "الغريبة" مدعية انه ما من شيء عادت تملكه في ذلك البيت: "دقيت بإيد الهون.. قالت الغريبة: ماعادلكيش اليوم دقيت بالعودة قالت الغريبة: ماعادليكيش حوجة" ويبدو المثل الشعبي أكثر كشفا لهذا التناقض حين يقرن الإخوة بالميراث: "الأخ خى مرايته وإن مات ماينوبهاش الا كيَّته" فهذا المثل بالغ الدلالة، لأنه ينطوي على اعتراض جلي على عدم توريث البنت، فهو يمحو صفة الإخوة، التي تربط البنت بأخيها لأنها لا ترث فيه، ويؤكد أن الأخت الحقيقية للأخ هي زوجته "مرايته"، لأنها سترث أملاكه بعد موته، إما هذه الأخت المحرومة من الميراث أصلا، فلن ترث شيئا سوى الاكتواء بنار الحزن عليه. وتتواتر الأمثال الشعبية الدالة على هذا الاحتجاج : "البيت بيت أبونا والغرب طردونا" ..الخ وثمة أمثال عديدة تنعى الحظ العاثر للنساء، فهي الحائزة على النصيب الأعظم من الهموم، والمحرومة مما يبهج: "في الهم لنا التلات تربع ..وفى الفرح نبص ونرجع" وكذلك:"في الهَم مَدْعَيَّه.. وفى الفرح منسَّيه"…الخ وتكثر النصوص التي تشيد بما كانت تنعم به البنت في بيت أبيها قبل موته، وفى إشارة خفية إلى ما آل إليه الأمر بعد موته من إهمال الإخوة، فيرد في الأغنية الشعبية: "يا بيت أبويا مَعَزّتَك في عينيه ما شفت منك غير ليالي هنيه يا بيت أبويا معزتك في عنيه يا بيت أبويا كتر ألف خيرك من بعد ابويا ..ما شفت هَنَا ..غيرك". وكذلك في عديد الأب تتحسر المعددة على بيت أبيها، وما لقيت به من الخيرات قبل موته، في حين لم تجد بعد موته سوى الظلام والحر يتمشيان فيه: دا بيت أبوك يا مالقينا فيه لقينا الضلام .. يا أبويا والحر .. ماشي فيه وتقول أيضا : يا بُويا يا متْغيّبْ.. يا أبويا يا متْغيّبْ دي غِيبَتكْ يا أبويا.. ح تِضِلْ وتْسَيِّبْ".. بل أن النادبة تتوجه بخطابها غالبًا إلى بنات المتوفى معددة مظاهر الإيذاء التى ستلحق بهن عقب رحيله: يا بت ابكي على بوكي يا بت ابكي على بوكي يجوا الناس يعزوكي. يا بت اكي على بوكي هجروا فرشه ما قالوا لكي يا بت ابكي على بوكي كسروا ختمه ما قالوا لكي يا بت ابكي على بوكي آذوا أولاده ما قالوا لكي يا بت ابكي على بوكي أبريقه فضة في السطوح العالي ضربوا يتامك..يا قليل العايبى هجروا فراشك..يا قليل العايبى آذوا ولادك..يا قليل العايبى أذوا اخواتك..يا قليل العايبى.. أصل الحرمان وكانت المرأة في مصر القديمة تتمتع "بحقوق شرعية مساوية للرجل في الميراث وإدارة الممتلكات"..( راجع: حياة المصريين القدماء في عصر الفراعنة)، بل كانت تقف على قدم المساواة مع الرجل، مما يرجح أن يكون منع البنات من الميراث ظاهرة عرفتها المجتمعات الأبوية الأحدث ثم توارثتها الأجيال، وقد رصدها ابن بطوطة عند مروره بمدينة عيذاب على شاطئ البحر الأحمر في رحلته للحج، فذكر في وصف أهلها أنهم "لا يورثون البنات".(انظر: المختار من رحلات ابن بطوطة )، وفي ملاحظة ابن بطوطة ما يشير إلي عدم انتشار هذه العادة في غالبية البلدان التي مر بها وإلا لكان قد أورد ذلك فيما دونه عن أسفاره. ويذكر مصطفى فهمي منذ بداية القرن الماضي "1905"في وصفه لعادات الناس فى واحة الداخلة: " ومن عوائدهم أن يقفوا مملوكاتهم قبل الوفاة إلى أولادهم الذكور حارمين الإناث المتزوجات غير انهم يصرحون لهن بشئ من الريع عند طلاقهن ليقتتن به" ( انظر: أجمل الهدايات فى السفر إلى الواحات). وسواء كانت هذه الظاهرة موروثة أو وافدة على المجتمع المصري، فإن طوق النجاة الحاسم والمانع لاستمرار منظومة القيم المختلة على حالها، يتلخص فى الاحتكام إلى قوانين مدنية تُفَعِّل البند الدستورى القائل بالمساواة بين أفراد المجتمع دون تمييز عرقي أو ديني أو جنسي. ولكن إلى أن نصل إلى هذه المرحلة الناصعة من سيادة القانون، فإن مئات الحقوق المسلوبة للمرأة المصرية سيتم اهدارها بتواطؤ مجتمعي كامل.