في عام 1970 قضت المحكمة الدستورية الفيدرالية الألمانية بعدم دستورية واحد من أهم النصوص التشريعية التي كانت منظورة أمامها, إلا أنها قضت في الوقت نفسه بعدم بطلانه, وهو حكم استند إلي فلسفة إبداعية تميز بين مفهوم عدم الدستورية والبطلان. فليس كل تشريع لا يتفق مع الدستور باطلا وواجب الإلغاء. وأساس عدم البطلان هو الضرورة أو مقتضي الحال أو تغير الظرف السياسي للدرجة التي يصبح معها الدستور نفسه عقبة أمام إقرار مبدأ العدالة وانجاز الهدف الذي وضع من أجله, فالدستور ليس مقدسا وتطور البيئة السياسية والاقتصادية قد تقلب وظيفته رأسا علي عقب, فبدلا من أن يكون حلا للمشكلة يصبح هو المشكلة بعينها, وبدلا من أن يكون تعبيرا عن توافق وطني ديمقراطي حاميا للحريات وتداول السلطات يصبح أداة للهيمنة والاستحواذ وحكم الفرد والتوريث, ولم لا وقد كان إسقاط الدستور علي رأس مطالب الثوار في نفس الوقت الذي كانت تستند إليه المحكمة الدستورية العليا للنظر في دستورية القوانين. أسوق هذا الحكم التاريخي من ألمانيا بعد أن أحالت لجنة انتخابات الرئاسة قانون العزل السياسي إلي الدستورية العليا, ولا أريد أن أستبق الأحداث, كما لا أريد أن أعيد انتاج الجدل الخاص بطبيعة هذه اللجنة وما إذا كان من حقها إحالة القانون إلي الدستورية أم لا لكن ما يعنيني هو النتائج السياسية المترتبة علي الإحالة, فالقانون أقرب إلي عدم الدستورية منه إلي أي شيء آخر لكن الظرف الاستثنائي ومتطلبات العدالة الانتقالية, وضرورات الملاءمة السياسية تقضي بأن يكون الحكم مشفوعا بعدم البطلان مثلما جاء في حكم الدستورية الألمانية في ظرف مشابه, فالمرجعية في حكم كهذا يجب ألا تكون النصوص الدستورية بل شرعية الثورة وضرورات حمايتها من الانتكاس أو الإجهاض, والواقع يشهد باستقواء الثورة المضادة لدرجة فاقت كل تصور لا لشيء إلا لأنها تركت هكذا بدون سند تشريعي يضع حدا لمن أفسد الحياة السياسية ويحول بينه وبين استمرارية الفساد, فالعزل السياسي هو سنة الثورات جميعها في دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية ودول الاتحاد السوفيتي السابق وغيرها.
علي الرغم من اختلاف آليات العزل من دولة لأخري إلا أنه يمثل تدبيرا إداريا يهدف إلي تقليص نفوذ رموز النظام السابق علي الثورة لإتاحة الفرصة لانطلاق النظام الجديد, وممارسة العزل ليست بديلا عن المسئولية الجنائية للأشخاص المستهدفين, فالعزل السياسي تدبير عقابي يترتب عليه فقد الوظيفة العامة وعدم الأهلية لشغل وظائف معينة فضلا عن الحرمان من مباشرة الحقوق السياسية لمدد تتراوح بين خمس وعشر سنوات, وبرغم إيمان البعض مثل الرئيس التشيكي'' هافل'' بالطابع الفردي للعزل وعدم افتراض الجريمة لمجرد ارتباط العضو بالنظام السابق علي الثورة, إلا أن موقع العضو في أعلي درجات الهيكل التنظيمي في النظام السابق مثل البرلمان أو الحكومة أو لجنة السياسات أو المخابرات يقطع بوجود دليل كاف لاشتراكه في جرم جماعي بالتشريع والتنفيذ والتآمر والتواطؤ والصمت والدفع بمشروع التوريث وتزييف إرادة الأمة وكلها جرائم موثقة يشهد عليها التاريخ, وهو ما يجعل العزل وفقا للجرم الجماعي مبررا دونما الحاجة إلي فحص كل حالة بمفردها كما هو الحال في الجرائم الجنائية, فالتطهير أو العزل السياسي ومبرره المسئولية الجماعية ليس بديلا عن المحاسبة الجنائية ومبررها المسئولية الفردية, ولا يمكن رفض التطهير تحت دعوي التمييز بالمعني المتعارف عليه في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية أو في الشرائع السماوية أو الدستور المصري. فالتمييز في العمل والحياة السياسية مجرم في كل الدساتير والعهود إلا في حالة واحدة أن يكون الهدف منه محققا للمصلحة العامة وحسب القاعدة الفقهية الأصلية'' ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب''. فإنقاذ الثورة ومنع اختطافها وبلوغها أهدافها المشروعة هو مبرر عدم بطلان النص التشريعي المعروض علي المحكمة الدستورية وحتي وإن كان به عوار دستوري.
ويأتي العزل كتطور طبيعي لأي ثورة يراد لها الوصول لأهدافها فالميدان وحده لا يكفي هو تعبير عن غضب وانفجار لبركان يمكن أن يتحول إلي رماد في غياب العزل السياسي الذي ينحي القوي المضادة للثورة جانبا لبعض الوقت فالثورة والثورة المضادة لا يجتمعان في آن واحد ولو تركا للتنافس الطبيعي لتغلبت القوي المضادة بتشابك مصالحها, وتجذر فسادها في أحشاء المجتمع والدولة في الداخل والخارج وسيظل بركان الغضب أقرب إلي الرماد في غياب قوة التشريع, قانون العزل السياسي إذا هو الاختبار الأهم لمدي الانحياز للثورة ودماء شهدائها وتضحيات شعبها, منطوق حكم الدستورية بعدم البطلان لا ينحاز فقط للشرعية الثورية بل للحكم الصادر عن الإدارية العليا بحل الحزب الوطني عقب الثورة مباشرة الذي استند إلي إفساد الحزب للحياة السياسية ومنطوق الحكم وباطنه يشيران إلي القيادات والرموز فالشخصية الاعتبارية في ذاتها لا تفسد وحل الحزب راجع لفساد قياداته ورموزه ولا أتصور مع هذا أن يأتي حكم الدستورية مناقضا للإدارية العليا الذي يعد وساما علي صدر القضاء المصري, فعدم بطلان العزل السياسي علي الرغم من عدم دستوريته يضع حدا لمن أفسد ما مضي ويعد ردعا لمن تسول له نفسه أن يفسد ما هو آت, وهو قبل هذا وذاك انحياز لشرعية الثورة ومشروعية الميدان. المزيد من مقالات د.بسيونى حمادة