المستقبل حضارة معناه التطور والنمو والترقي والتجديد والحياة الأفضل, ومعناه أيضا اللحاق بركب حضارة العصر واستيعاب العلوم الحديثة, والإسهام في اكتشافها وإدراك أسرارها, والمستقبل أيضا هوالأخد من الماضي بقدر ما ينفع الفرد والجماعة والأمة وبقدر ما يعين علي التضامن مع الأسرة البشرية. المستقبل ليس هروبا من التاريخ والتقاليد, والقيم النبيلة أوطمسها, كما أنه ليس الارتماء في بحر اللذة العابرة والمجتمع الاستهلاكي والفوضي الأخلاقية, ولن يأتي المستقبل إذا قطعت جذور الشعوب من تراثها أوطمست هويتها دون الوقوع في نرجسية دينية أو تاريخية, وحركة الحياة والأمم لا تتوقف فإما أن تمضي إلي الأمام مندفعة بإرادة صلبة ثابتة لتحقيق أحلامها وإما أن تسجن في كهوف أوهام الماضي وأساطيره. هو صناعة الحاضر, لا تقيمه حكومة وحدها أوزعيم أوحد أوحزب منفرد, بل هوصناعة شعب قد صمم علي صياغة الحياة من جديد يسهم في ذلك كل مواطن في موقعه وما أشد الحاجة إلي ثقافة مستقبلية تري العالم أسرة واحدة, وتضع قيمة وكرامة وحرية الإنسان تاجا علي رأس القانون والنظام, ومن المعروف أن الخوف لا يقيم مستقبلا رائعا فالمرتجفون وسجناء فكرهم, والجهلة, والأنانيون وعبيد اللذة لا يصنعون المستقبل, كما أن المال وحده مهما تدفق وبخاصة من مصادر غريبة عن الوطن, لا تدرك عظمة مصر وعبقرية زمانها ومكانها وهذا المال لا يشارك في بناء المستقبل. أزعم أن هناك بعض الحقائق التي ينبغي أن تظل في رؤانا وأحلامنا وفي جهادنا نحو مستقبل مشرق لمصر أكثر عدالة وحرية ومساواة, أولي هذه الحقائق أن عصر الانقلابات قد ولي إلي غير رجعة ولا أشير فقط إلي الانقلابات العسكرية التي لاتزال في بلدان غارقة في الأمية والفقر والعنصرية والصراع القبلي, بل أشير أيضا إلي الانقلابات الأيديولوجية التي تفرض علي الشعوب فكرها ومنهجها وهيمنتها. لقد فشلت تماما النازية, والشيوعية والتطرف اليميني أو الديني في أوروبا وفي بلدان كثيرة, فلقد خلق الإنسان حرا, بفطرة وغريزة ترفض الاستبعاد والذل مهما اشتد عنفها وسطوتها ولا يحق لإنسان- مهما أوتي من علم وسلطان أن يستعبد إنسانا مهما كان فقيرا أوضعيفا. حقيقة ثانية تقول إن العالم بأسره يرفض العنصرية بأشكالها, ويحارب التطرف وفي طريقه لتخطي زمن حكم القبيلة أوهيمنة المذهب أوخنق حرية الفكر والعقيدة والتعبير, وأغلب الظن أن الخيط الذي يربط الثورات العربية الناهضة, والمبدأ الموحد الذي نادت به هوالحرية فلا طعم للخبز بدونها ولا معني للكرامة في غيابها ولا ينبغي أن يخجل العقل العربي أمام حقيقة واضحة أنه عاش حقبات زمنية متتالية ولايزال يعيش في خوف, وفي شك من ضياع حريته وأمنه. حقيقة ثالثة تقول إن العلم, والعقل, والدين, أضلاع مثلث أساسي لبناء المستقبل, ليس بينها تعارض أوتناقض, أوهوة, بشرط ألا يطغي واحد منها ليسقط الآخر, انها منظومة تتكامل وتتناغم, وحضارة المستقبل هي علم له قوانينه لا مجال فيها للصدفة أوالحظ أوالعواطف, والعقل كما يقول الجاحظ في كتابة( الحيوان) هو وكيل الله الخالق في نسيج الكيان البشري, لا ينبغي أن توضع أمامه السدود أويحاط بقيود تعيق إبداعه وتحرره مصدر تعبيره, وأما الدين فهوالمنارة التي تضئ الطريق دون إكراه, أو استعلاء أوغبن للعلم والعقل, وما أعمق الهوة بين الدولة الدينية التي تحكم باسم الله والدين والشرع حكما ثيوقراطيا يفرض عليها قسرا وتخويفا ووعيدا وبين دولة يسري في جنباتها الدين والإيمان كما يسري النور في صمت وجمال وبهجة, وليس لأحد أن يحكم باسم الله والدين إلا الأنبياء وقد مضوا إلي الرفيق الاعلي وعلي من يأتي بعدهم أن يحمل دعوتهم بالحسني والقدوة لقد فشلت تماما الدولة الدينية في كل العصور والبلدان لأن الدين والإيمان اكبر من أن يمتلكه حاكم أو أن يحتكره مذهب, ومصر المستقبل, المصريون قادرون علي إقامتها بشرط أن يكونوا مصريين مخلصين للوطن, ثابتين علي إرادة التجديد والتغيير, مؤمنين بحركة التاريخ وبوحدة الجنس البشري والمساواة بين أبناء الوطن. المزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته