هل رهان تلك الحرب هو الدفاع عن مصير الشعب السوري ومصالحه، بحماية وحدة أراضيه جغرافيًا، والحفاظ علي تماسك مجتمعه بحضور كيانه دون أن يبرحه، اغترابًا أو افتقادًا؟ إن سؤال الكشف المنضبط عن أسباب تلك الحرب التي تديرها الإدارة الأمريكية ضد سوريا، لا تتأتي إجابته الصحيحة في ظل الخضوع للخلل الذي تفرضه الهيمنة الأمريكية، بالقطيعة بين الخفي والظاهر من تلك الحرب، بوصفها حربًا خططت لها الأمركة، وأنتجتها، وتحرسها بالتواطؤ، وممارسة الكذب السياسي، والشحن الإعلامي المزيف لمضاعفة الخداع داخليًا وخارجيًا، ليصبح الإذعان للهيمنة الأمريكية هو الخيار الوحيد للشعوب والأفراد، إذ نشرت صحيفة «واشنطن بوست» في 18/ 4/ 2011 تقريرًا بعنوان (الولاياتالمتحدة دعمت سرًا مجموعات معارضة سورية)، وجاء التقرير مدعومًا بنشر بعض المراسلات الدبلوماسية السرية، المتبادلة بين السفارة الأمريكية في دمشق، ووزارة الخارجية الأمريكية، والمؤرخة في 12/ 2/ 2006، و 28/4/ 2009، و 8/ 7/ 2009، و 2/ 9/ 2009، حيث تكشف تلك البرقيات عن برامج تمويل المعارضة السورية، والدعم التقني والتدريبي لها، وسلسة الممارسات المتعددة، استقطابًا لأطراف ومؤسسات ومنظمات، وشخصيات وقوي داخل سوريا وخارجها، كما أشار التقرير أن الإدارة الأمريكية، قد بدأ تمويلها لرموز المعارضة السورية خلال ولاية الرئيس بوش الابن، عقب قراره بتجميد العلاقات السياسية مع سوريا عام 2005، وقد استمر تدفق هذا الدعم المالي في ظل ولاية الرئيس أوباما؛ بل وفي خضم سعيه إلي إعادة العلاقات السياسية مع سوريا، الذي انتهي بتعيين سفير أمريكي بعد ست سنوات. تري عمن تتخفي الأمركة في استمرار تأجيجها لكارثة احتراب السوريين ضد السوريين، وفي الوقت عينه تمارس أعلي مراحل الخداع، بتكريسها إقامة علاقات سياسية بعودة سفيرها إلي سوريا، كوسيلة أساسية في مضاعفة الخداع؟ أي ذروة بلغتها الأمركة بأن يكون الإذعان هو غايتها تحت ضغط الممارسات الهجومية، ثم تلاحق المجتمعات بعقوبات غياب الديمقراطية، وحقوق الإنسان؟ إن أيه مراجعة للوثيقة التأسيسية لما أطلق عليه (خطة القرن الأمريكي الجديد المحدد تطبيقها اعتبارا من عام 2000 حتى عام 2020)، تكشف أن ما تستهدفه تلك الوثيقة يتحدد في ضرورة ضمان التفرد الأمريكي المتفوق علي دول العالم في القرن الحادي والعشرين، والذي يعتمد بالدرجة الأولي علي القوة العسكرية، بالتوازي مع تبني سياسة هجومية انفرادية. هل يعني ذلك أن الاستراتيجية العسكرية لم تعد مهمتها الدفاع ضد عدو قائم فحسب؛ بل أيضًا تصنيع عدو ومهاجمته؟ إن شرط البراءة الذي تمنحه الأمركة لنفسها، بإعلانها الزائف الدفاع عن الحريات والديمقراطية والحقوق، ينتفي تحديدًا عندما تؤكد تلك الوثيقة التأسيسية نصًا بأن (قتال دول ضعيفة عسكريًا سيؤدي إلي إشاعة الخوف في دول قوية عسكريًا، لأن الانتصار الأمريكي سيكون ساحقًا، وسيكون فرصة حقيقية لتجريب أكبر كم من الأسلحة المتطورة، التي ستجد ميدانًا فسيحًا لاختبار مدى قوتها)، ولأن الأمركة اختزلت جوهر الوجود في ممارسة الهيمنة المتفردة المتفوقة، والتصدي لكل تهديد مستقبلي لا ينصاع لإملاءاتها؛ لذا راحت تبحث دومًا عن عدو تجتاحه وتكتسحه انتصارًا، يجسد قوتها العسكرية ويرسخ مكانتها، ويوحي للآخرين بإنذار عدم تجاوزها، وقد نصت تلك الوثيقة علي تحديد جغرافية تلك الدول الضعيفة التي تقع ضمن ( المثلثات الاستراتيجية المستهدفة التي تؤمن المصالح الأمريكية علي المدى الطويل). لقد فرض هذا الترسيم إيذانًا بأن تصبح منطقة الشرق الأوسط ساحة استعراض لعمليات عسكرية أمريكية؛ لذلك فإن النزوع الأمريكي المطلق واللامحدود نحو غزو العراق، استدعي مدارات من التحليق الفكري حول الأسباب الحقيقية لهذا الغزو، إذ راهنت تلك المدارات علي إبقاء العقل بمنأى عن الحجب، وآليات العزل، وعما وراء الغزو وأمامه من تصريحات وادعاءات، ولوجًا إلي الاسنادات الحقيقية له، وذلك ما يكشف عن أنها حرب تتعلق بالمكانة، وقد وفرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر غطاءا سياسيًا، لذلك الغزو المقرر، والمضمر، والمكتوب، والمقروء في وثيقة استراتيجية القرن الجديد، ولا علاقة له بالإرهاب أو أي أسباب أخري معلنة. لقد كانت تلك الحرب استعراضًا للقوة العسكرية الأمريكية، شارك في صياغتها العسكريون والسياسيون والإعلاميون وعلماء النفس وغيرهم، وجري بثها عبر الميديا، كرسالة مفادها أن الولاياتالمتحدة، هي القوة المهيمنة الوحيدة في العالم، وذلك لتمحو وصمة الحادي عشر من سبتمبر التي نالت من مكانتها. صحيح أن سوريا كانت الاستهداف الثاني للأمركة؛ إذ بعد سقوط العراق تحت الاحتلال العسكري المباشر2003، علي الفور بدأت التنطعات المتزايدة للأمركة في تصعيد مكثف ضد سوريا بدعاوى متعددة، منها أنها دولة مارقة تأوي منظمات إرهابية، وتمتلك أسلحة كيماوية، وتحمي عراقيين مطلوبين، واشتد تصاعد توجه الإدارة الأمريكية نحو خوض معركة ضد سوريا؛ إذ نشرت صحيفة واشنطن بوست في 17 / 4 /2003، تصريح ريتشارد بيرل ( أتمني أن ينظر الكونجرس في مساعدة أولئك الذين يريدون تحرير سوريا من الحكم الاستبدادي لحزب البعث)، والتصريح يستولد دهشة لا تبرح السؤال: تري هل مبكرًا كانت فكرة مشروع جيش المعارضة، الذي يفرخ ويساند هدفًا مكشوفًا أو مقنعًا، يؤسس لاحتراب السوريين ضد السوريين؟ ثم ذكرت الصحيفة أيضًا أن ثمة دراسة وقع عليها، المسئول عن الشرق الأوسط في مجلس الأمن الأمريكي،ووكيل وزارة الدفاع وغيرهما، دعت إلي عدم استبعاد العمل العسكري ضد سوريا بصورة عاجلة، وصحيح أيضًا أن اتهامات الإدارة الأمريكية قد تعددت واتسمت بالإيغال في اقترانها باملاءات تشكل ابتزازًا واضحًا، وذلك ما تبدي في توجيه وزارة الدفاع اتهامات مباشرة بتورط سوريا في شبكة تجسس، استهدفت اختراق مواقع أمريكية محددة، لنقل معلومات عن سجن جوانتانامو وخرائطه ، وأسماء المعتقلين، وملفات التحقيق، وخطط الحرب الأمريكية ضد الإرهاب. تري ألا تعد تلك الاتهامات استنفارًا لحفظ المكانة، لتأسيس ضرورات حمائية ووقائية، تتمدد وتتضخم لابتلاع تلك التهديدات؟ وتأتي تصريحات وزير الخارجية باتهاماته وتهديداته المتتابعة المتتابعة، حيث جاء تصريحه ( لم يعد بامكان سوريا أن تتوقع علاقات أفضل وتعاونًا مع واشنطن)، أشبه بمصطلح إجرائي يمسرح علاقة التعارض الصارخ بينهما، استحضارًا لجسامة الأحداث المقبلة؟ وقد أعقب التصريح قصف الطائرات الإسرائيلية في 15 /10 /2003 ،لمنطقة (عين الصاحب) في ضواحي دمشق، زعمًا أنه مكان لتدريب منظمات فلسطينية متطرفة، ورفض السفير الأمريكي في الأممالمتحدة إدانة العدوان الإسرائيلي، وجدد اتهام واشنطنلسوريا برعاية الإرهاب. لكن الصحيح أن موقف الإدارة الأمريكية من سوريا، وليد رؤية استباقية علي أحداث الإرهاب، تضمنتها استراتيجية القرن الجديد التي معيارها هيمنة الأمركة علي مصائر الشعوب، حيث تتابع الأمركة ما يتراءى لها من تنفيذ خططها، كما ترتقب لها أن تصير، بأن يحترب السوريون ضد السوريين، وأن يحمل مئات الآلاف من السوريين أطفالهم، خلاصًا من جحيم الاقتتال والدمار، ويهجرون الوطن افتقادًا واغترابًا إلي مجهول، ولتصبح سوريا رهينة التقسيم. إنه المصير المرتقب لسوريا من الأمركة. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى