آن لمصر أن تفكر بكل ما لديها من قدرة على التركيز والتحليل والتخيل والاستيعاب فى المشهد المتفاقم فى سوريا وتداعياته المحتملة، فالأمن القومى المصرى عبر العصور بدءا من حروب رمسيس الثانى مع الحيثيين والتى كانت الشام ساحتها وعبر الحروب الصليبية وغزو التتار وحروب نابليون ثم محمد على وإبراهيم باشا حتى الحروب مع إسرائيل فى الأربعينات والخمسينات والستينات حتى حرب أكتوبر 1973 كان الأمن القومى المصرى يؤثر ويتأثر بما يجرى على سفوح بلاد الشام. ونحن نرى أن الصراع حول سوريا الأسد الذى بدأ منذ أربعة أعوام، وكاد فى لحظة ما أن يستدرج مصر إليها... كل ذلك يدعو مصر الآن إلى بلورة موقف يقوم على السياسة والدبلوماسية بهدف التوصل إلى حل للأزمة السورية وإيقاف التدهور والدمار بل وإنهاء سوريا كوطن موحد. وبينما نرى اليوم الطائرات تنتشر فى الأجواء السورية، حيث تتزاحم الطائرات الأمريكية والروسية والصواريخ الموجهة من قواعد البر أو فى البحر. ولا يكون بين الجانبين من اتفاق إلا على سبيل تجنب التصادم. وبينما تتزاحم القوى الإقليمية على الأرض، ما بين إيرانيين وأتراك وإسرائيليين وتحركات المنظمات التى تعمل بالوكالة بدءا من حزب الله إلى داعش إلى النصرة.. إلى آخر هذه المسميات التى تتمسح كلها فى الدين. ولا يجد الشعب السورى الذى فقد مئات الألوف وتشرد منه الملايين، بحيث لم يعد لهم من ملجأ سوى ركوب البحر فرارا من الجحيم تحت أصعب الظروف... وبينما تدور هذه الأحداث على تخومنا... وفى منطقة هى الأكثر تأثرا وتأثيرا فى أمننا القومي... فإن السؤال يطرح نفسه، أين مصر؟ مصر الدبلوماسية فى الأساس؟ لا يقول أحد أن مصر ينبغى لها أو حتى يجوز لها أن تدخل فى المشهد الحربي، ولكننى أعجب عندما أجد أن اسم مصر حتى يذكر كدولة معنية. ربما لأن مصر مشغولة بقضاياها وهمومها الداخلية، وربما أيضا لأن الدول الكبرى تتقاسم الأطماع والهواجس فيما يجرى فى سوريا ومجمل بلاد المنطقة. أما الدول الإقليمية فغالب الأمر أنها لا تريد لمصر أن تعود من جديد إلى الساحة الدبلوماسية، وكفاها معركتها مع الإرهاب. ومع اقتصادها. وهمومها الداخلية المتراكمة. لكن كل من درس مصر وتاريخها يعلم مدى التشابك بين الساحة الداخلية الساحة الخارجية ولن تستطيع مصر أن تعالج مشاكلها الداخلية بمعزل عما يجرى حولها. لا أحد يطلب من مصر أن تتدخل عسكريا فى أى صراع سواءً فى الشام أو فى غيره. وسيكون ذلك أبعد ما يكون عن العقل وخبرة التاريخ. ولكن العقل يطلب من مصر أن تكون لها رؤيتها ودورها الفاعل فى الحركة الدبلوماسية الدائرة والتى تتصاعد وتيرتها كل يوم. فى المنطقة وخاصة فى أزمة سوريا. الأمر يعنينا ربما أكثر من غيرنا . ما معنى أن تكون رئاسة القمة العربية معقودة لها. وما معنى أن يكون لمصر ما يقرب من مائتى بعثة دبلوماسية فى الخارج وغيرها من مؤسسات الأمن القومى إذا لم يكن لذلك كله من تأثير فى قضية بالغة الخطورة للأمن القومى المصرى ويًترجم إلى إنجاز دبلوماسى يحفظ لمصر دورها ويضع فى يدها أداة تأثير جديدة فى هذا المشهد »السيريالي« الدائر حولها. كل هذه الأدوات التى أشرت إليها كفيلة بأن تتحرك من خلال إستراتيجية عمل مدروسة جيدا.. من أجل الحفاظ على بلد يهم الأمن القومى المصرى حسبما أثبت التاريخ. لكن ما هى عناصر المشهد الخارجى المؤثرة حاليا. توجد الدولة الأكبر فى العالم أمريكا ورئيسها الذى يكتفى من العمل العسكرى بالجانب الاستعراضى ولا يدخل إلى العمل المؤثر فى مواجهة داعش. هو معنى أساسا بما سيكتبه عنه التاريخ أو ما سيتركه للمؤرخين »legacy« عن رئاسته. نعم لقد أخرج أمريكا من مستنقع أفغانستان ومستنقع العراق وإن كان ذلك الأخير ما زال أمرا محوطا بالشك. وهو معنٌّى بتمرير الاتفاق النووى مع إيران وسعيد بنجاحه فى أنه حال بين أمريكا وبين أن تنزلق إلى حرب جديدة فى الشرق الأوسط، وهو محق فى أن يسعد لذلك وسعيد بأنه أنقذ أمريكا من أزمة الاقتصاد التى تركها له بوش الصغير. كل هذا مفهوم. لكن أيضا عليه أن يعلم أن الشرق الأوسط وأزمة سوريا تحديدا تدق دياره بقوة. وأن المبادأة قد خرجت من يده وأصبحت بلا منازع فى يد غريمه بوتين الذى يعالج الأزمة باقتدار دبلوماسى لا شك فيه . أما أوروبا فهى اليوم مهووسة بهؤلاء اللاجئين الذين جاءوها بالآلاف يتقاطرون على أراضيها ومحطات قطاراتها ويخلقون فيها مشكلاً جديداً لا تريده بل وربما لا تعرف كيف تتعامل معه. ويبقى الدب الروسى أو الثعلب الروسى اليوم هو سيد الموقف الذى يملك زمام المبادأة. أما إذا أتينا إلى المشهد الإقليمى، فماذا نري، إيران تعرف ما تريد ولكن الإرهاق أصبح بادياً عليها. وفى اللحظة التى كانت تستعد للاحتفال باستعادة أموالها المجمدة منذ ثلث قرن تجد أمامها اليوم الفاتورة الخارجية الجديدة جراء توسعها فى بناء إمبراطورية من القرن الأفريقى وباب المندب إلى البحر الأبيض. ونجد تركيا حائرة وخائفة وأصبح سلطانها الجديد أردوغان وقد كف عن رفع شارة رابعة وأخذ يحاول اللحاق بالأحداث والهاجس الكردى يكاد يجعل لياليه مسكونة بالكوابيس بينما كان يستعد لحياة السلاطين فى قصرٍ أبيض منيف. أما إسرائيل فهى مازالت مهووسة ببناء مزيد من الحوائط والحصون وكأن القبة الحديدية لا تكفيها لأنها لا تحمى المستوطنين من حجارة الشباب الفلسطينى الغاضب. كما لم تحميها من قبل صواريخ قادمة من جنوبلبنان أو من غزة، ولكنها بطبيعة الحال تترك لآلتها العسكرية وأجهزتها المخابراتية أن تسير فى عملها الثابت الذى يزداد الانقسام الداخلى ويصبح الفلسطينيون الذين يعيشون فى الداخل الإسرائيلى أكثر اقتراباً والتحاقاً مع فلسطينى رام اللهوغزة والشتات. ستكون حركتنا الدبلوماسية التى ندعو إليها منطلقة من الأرض العربية التى تعنينا حمايتها. وستكون حركتنا الدبلوماسية معنية بالتفاهم مع أخواتنا العرب وخاصة مع الشقيقة السعودية. لا نسمح بشرخ فى علاقتنا معها ونحن لا ننسى وقفتهم الأخوية معنا ويمكن لنا توزيع الأدوار معهم بتعاون من رؤساء وحكماء مثل أمير الكويت وملك الأردن وسلطان عمان الذى قد تساعد دبلوماسية فى ترشيد موقف إيران، بل ربما تركيا نفسها الحبلى بالاحتمالات، وسيكون مطلوباً أن نتعامل مع الجميع من خلال الدبلوماسية التى لا تستبعد أحداً أياً كان. نريد عملاً دبلوماسياً كبيراً فى مبناه ومعناه وبعيدا عن الضجيج... عملاً ينطلق من تحليل سليم وسيل معلومات من كل اتجاه وتشاور مع الأصدقاء وتواصل مع الجميع قدر ما تسمح ظروف اللحظة. ولا يقتصر العمل المطلوب على الجانب الحكومى لكن المجتمع المدنى مثل المجلس المصرى للشئون الخارجية ومراكز الفكر والبحث. والكتاب والمفكرين. علينا جميعا أن نفكر فيما ينبغى عمله لإطفاء هذا الحريق الآخذ فى الانتشار.. هذا واجبنا وهذا قدرنا. لمزيد من مقالات السفير/ عبد الرءوف الريدى