من فضائح التاريخ بيع الإمبراطورية الرومانية، في مزاد علني عام 193 ميلادية، إذ تعطلت آليات الوعي الوطني، وانكمش الإدراك السياسي، وانحجبت مستوجبات المسئولية، وذلك عندما تمردت ميليشيا الحرس الخاص للإمبراطور عليه، وقتلوه بسبب تأخر رواتبهم، وأعلنوا البيع للإمبراطورية، ورغم وجود برلمان يجسد مهام تعقب المحاسبة؛ فإذ بشرط الوجوب يتبدي متآكلاً، لعدم نهوض البرلمان بالتزاماته، وأيضًا هناك حقيقة صارخة أن للإمبراطورية جيشًا رفيع المستوي، لكن فيالقه موزعة خارج البلاد، مكلفة بالتوغل لفرض سطوة الهيمنة. في ظل هذا القصور الجمعي، توافد علي روما لحضور المزاد الأثرياء والتجار للفوز بالصفقة، وانحشر مستقبل الإمبراطورية، بين طيات تواطؤات صراع الأموال، الذي أسفر عن فوز تاجر روماني بالصفقة، فدفع الثمن، وتسلم وثيقة امتلاكه الإمبراطورية، وأصبح إمبراطورًا لروما. ولأن الأوطان لا تباع ولا تشتري؛ لذا شكلت هذه الحادثة مذلة صادمة لأهل روما، ومعاناة تجلت في إحساسهم الحاد بمغادرتهم علاقات وجودهم، وفقدانهم تمفصلهم مع دلالات وطنهم، ليواجه كل منهم وجودا يتبدي فيه وكأنه محض تمثال تذكاري صامت، نحتته تلك المذلة الصادمة لحظة حدوثها، فجردت كل منهم من حميميته؛ بل وشردته تائهًا صامتًا ليصبح عبدًا لمن يمتلك الوطن ويحتكره، لكن سرعان ما تخلص أهل روما من ضياعهم، فكانت ثورتهم التي تتابعت متعاظمة، إذ استنهضوا فيالق جيشهم للعودة إلي روما لخلع التاجر الذي حول الوطن إلي سلعة للتداول. وقد أنهي هذا الوضع الكارثي عودة فيالق الجيش الروماني إلي روما، فقطعت رأس التاجر، واستردت لروما مكانتها بوصفها وطنًا لا يحتكر، وانتخب قائد الجيش إمبراطورا جديدًا. تري هل هذه الحادثة الكارثية، تبشر، أو تحذر من المختلف المتجاوز، والعابث بالمصائر غير المتوقع، الذي سيأتي به المستقبل عندما لا يكون لمتخذ القرار ثمة رابط بأية قيم خارجية، سوي حرية اختياره؟ صحيح أن أمريكا خاضت حرب استقلالها، سعيًا إلي التحرر، وتجسد استقلالها في فضاء يضم ثلاث عشرة ولاية، وبنية بشرية اجتماعية لا تزيد علي أربعة ملايين نسمة؛ لكن الصحيح كذلك أنها احتضنت مبدأ شراء الأوطان، أو الحصول عليها بالحرب، وكأن مبدأ الحرية الذي رفعته للحصول علي استقلالها، قد اختتم تاريخه بحصولها علي استقلالها؛ إذ بدأت ممارسة مركزية ذاتية لا متناهية، تبدت في أجلي فعاليتها بالمد والتمديد لمساحات أوطان جديدة بالشراء، ففي عام 1803 اشترت من فرنسا مساحة من الأراضي الفرنسية في شمال أمريكا، تشمل خمس عشرة ولاية بسكانها، ثم اشترت فلوريدا من إسبانيا، ثم في عام 1816 وافق الكونجرس علي شراء ولاية جديدة في إفريقيا، تعرف باسم ليبيريا، وسميت عاصمتها مونروفيا نسبة إلي الرئيس الأمريكي جيمس مونرو، وذلك فكًا لالتصاق الزنوج بالولاياتالمتحدة، بطردهم للعيش في إفريقيا، بوصفها وطنهم الأصلي، والقرار يعتمد علي فن التكاذب في تكوين الحقيقة، وخداع الدلالة، لحماية جرأة العنصرية والاستبداد؛ لكنه لا يملك براءة المواجهة؛ إذ القرار يعني أن الولاياتالمتحدة أصبحت مغلقة ومستغلقة في وجه الزنوج، وإن كانت دلالته الخادعة تتكاذب بأن الولاياتالمتحدة تساعد الزنوج بإعادتهم إلي وطنهم الأصلي، لكن الحقيقة أن وضع الزنوج مثل البيض جد متطابق، بوصفهم معًا قد هاجروا إلي أمريكا، ثم استوطنوها، أما مغايرة الزنوج فهي فقط في لونهم؛ لذا اتخذت التدابير العنصرية لترحيلهم. كان رهان الولاياتالمتحدة ترسيخًا لهيمنتها، وتطويعًا للآخر، واستغيابًا للقيم، واختراقًا للجغرافيا، وتغييرًا للتاريخ، يتبدي في تشبثها بسلطة المال، وسلطة القوة؛ لذا أصرت علي مواجهة المكسيك عسكريًا، فراحت تدفعها - وهي الدولة الضعيفة- إلي المواجهة، ولم تنج المكسيك من فخ المصير، وبدأت المناورة بتزايد عدد الأمريكيين المقيمين في منطقة تكساس المكسيكية، إلي ما يفوق عشرة أمثال المكسيكيين، وفي عام 1835 تمردت تكساس علي حكومتها، وأعلنت استقلالها كجمهورية منفصلة عام 1836، ثم تمردت علي هويتها المكسيكية لتصبح إحدي الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتصاعدت المناوءة؛ إذ طالبت الحكومة الأمريكية بتعديل حدود ولاية تكساس الأمريكية، فرفضت المكسيك التنازل عن أي أراض أخري، فأعلن الكونجرس الحرب عليها عام 1846، واقتحمت القوات الأمريكية الأراضي المكسيكية واحتلت العاصمة، فواجهت المكسيك المهانة بقبولها اغتصاب الولاياتالمتحدة لكيانها بشراء مناطق من وطنها، وفي إطار معاهدة تنص عليها وتحددها وهي: كاليفورنيا، ونيفادا، ويوتا، ومعظم أراضي أريزونا، ونيومكسيكو، وبعض أراضي كولورادو، وويومينج. اغتصبت الولاياتالمتحدة أوطانًا، واغتالت وجودها، وأقصتها عن هويتها وتاريخها، تدميرًا لذاكرتها ولشعورها بفقدانها؛ استحواذًا لامتداد تواصل وجودها الجغرافي تحقيقًا لمنافعها، لكنها اشترت أيضا ولايتين تقعان خارج تواصلها الجغرافي، هما: ولاية آلاسكا حيث اشترتها من روسيا عام 1859، ثم ولاية هاواي التي اشترتها بذات صيغة ترسيمات أحداث شراء تكساس المكسيكية؛ إذ ثار الأمريكيون المقيمون في هاواي ضد الملكة، وأعلنوا قيام الجمهورية عام 1884، ثم اشترتها منهم الولاياتالمتحدة، وأقر الكونجرس ضمها 1898، ويبدو أنهما في ضوء إمكانات ذلك العصر، كانتا كشرفة تتطلع أمريكا من خلالها، وتتابع أحوال المقاومات ووسائلها، ضبطًا لتعميم هيمنتها. لم تتخل الولاياتالمتحدة، حتي زمننا المعاصر، عن رهانات مغامرات زمن التأسيس باقتناص الأفضليات كلها لصالحها، مهما كانت وطأة ما يخلفه ذلك من كوارث لدي الشعوب، وتعد هذه النزعة بدء تكوين مشروع هيمنة الأمركة علي محيطها، ثم علي العالم؛ إذ ما زالت أمريكا تحاول شراء الأوطان بالمال أو بالعنف العاري، بوصفها قوة عظمي والتي تبدت خرافتها- وفقًا لتشخيص نانسي سودربرج - في (كتابها خرافة القوة العظمي)، إذ تري أنه ( لابد أن تغير أمريكا مسارها، حيث أن الوصفات الخاصة بالهيمنة، أدت إلي انتكاسة بأن جعلت أمريكا أقل أمنا، وليس أكثر أمنًا، فعلي الرغم من وضعها كقوة عظمي، فإن تحديات القرن الحادي والعشرين، لا يمكن التغلب عليها إلا بحشد الرأي العالمي، لكن لم يفت الوقت بعد لرسم مسار جديد). صحيح أن أمريكا جددت بعض وسائلها، فاستحدثت المال السياسي، اختراقًا وتفكيكًا للأنظمة السياسية، وتفتيتًا للمجتمعات من داخلها، ثم التنصت والتسلط العلني عليها، بالهجوم من كل ساحة، وفقًا لأعلي مراحل الخداع والتضليل؛ توظيفًا لآلة الأكاذيب، تنطعًا بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، لكن الصحيح أنها تتشبث بشراء الأوطان، بوصفه الرهان المركزي للهيمنة المطلقة؛ لذا ففي القرن الحادي والعشرين، وقع الرئيس الأمريكي علي وثيقة مع قيادات الإخوان، لشراء مساحة من أرض الوطن في سيناء، مقابل حفنة دولارات، ويتوازي الحدثان، حدث إعلان ميليشيا تبديد الأوطان بيع الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني، وحدث بيع مساحة من الوطن المصري في سيناء في القرن الحادي والعشرين، والبيع في الحدثين مقابل حفنة أموال لتجار المصائر الذين لا يسكنهم هم الأوطان، وأيضا كان الحصن الأكبر الذي حمي الوطن، وحرره من مهزلة البيع في الحدثين، هبة أهل الوطن - شعبًا وجيشًا- التي صححت المسار. تري أما آن للأمركة أن تصحح مسارها؟ لمزيد من مقالات د.فوزي فهمي