بنهاية حكم دكتاتور تونس بن على مطلع 2011 كان هناك نحو ألفين من المسجونين بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب لعام 2003. ولا يخلو عنوان القانون مما يفصح عن سياقه بعد 11سبتمبر بالولايات المتحدة .فجاء على هذا النحو: دعم المجهود الدولى لمكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال . وقد صدر للمفارقة فى 10 ديسمبر اليوم العالمى لإعلان حقوق الانسان. لكننى عندما قرأت نص القانون لم أجد فيه احتراما كبيرا لهذه الحقوق ولو حتى على سبيل وعد بالالتزام . وهو أمر لا يغيب عن القانون الجديد الذى صادق عليه البرلمان التونسى مطلع الأسبوع الحالى فنص فى مادته الثانية على احترام الضمانات الدستورية والاتفاقات الدولية والثنائية فى مجال حقوق الإنسان وحماية اللاجئين والقانون الدولى الإنسانى . لكن المفارقات لا تتوقف عند هذا الحد. فبعد سنوات من تطبيق قانون بن على لدعم المجهود الدولى اتضح ان مساهمة التونسيين فيما يسمى ب « الجهاد المعولم « خارج حدود الوطن اصبحت ظاهرة مقلقة وتسجل معدلات غير مسبوقة . بل ولافته بالنسبة لبلد محدود السكان ( نحو 11 مليونا) و لديه ماض معتبر من الحداثة والاجتهادات المستنيرة للإسلام . ولقد استمعت الى تفسيرات متعددة من اصدقاء تونسيين لهذه الظاهرة المحيرة. ووجدت فى أبطال رواية «الغوريلا» لكمال الرياحى ما يفيد ويؤرخ لأن شخصية الارهابى المتطرف دينيا هى صناعة متعمدة لنظام يسعى للبقاء بانتاج هذه الفئات بين ضحاياه المهمشين كى يخيف المجتمع ويشدد قبضته الأمنية .وهى رواية مكتوبة قبيل الثورة مباشرة. كما استوقفنى ما يقال عن تحول سجون قانون 2003 ومظالمه الى مفارخ لانتشار التطرف والسلفية الجهادية . وكيف اصبح بعض ضحايا القانون وسنوات السجن والتعذيب الى فريسة سهلة لأمراء التطرف و القتل والدم . وعلى كل الأحوال فان ثورة الشعب التونسى الغت هذا القانون وتسببت فى اطلاق ضحاياه، وان تورط بعضهم لاحقا فى جرائم ارهابية أربكت مسار التحول الديمقراطى وانقضت على أهداف الثورة . وبلاشك فان الكثير من الأخطاء ارتكبتها الحكومات والسلطات المسئولة بعد الثورة . ومن بينها التلكؤ فى تعويض قانون 2003 بتشريع ديمقراطى أكثر تطورا واحاطة بالظاهرة الارهابية وردعا لجرائمها و فى الوقت نفسه احتراما لحقوق الانسان. وهو ماسعى البرلمان التونسى الى تداركه أخيرا عبر أوسع توافقات ممكنه بين الكتل والقوى السياسية . فمر مشروع القانون بعد ثلاثة ايام من نقاش الجلسات العامة تابعناها عبر بث مباشر للتليفزيون التونسى وبأغلبية 176 نائبا ومع تحفظ عشرة نواب فقط وبلا معارضة ( اجمالى نواب البرلمان 217 نائبا). وللمفارقة فان البرلمان أقر القانون فجر 25 يوليو أى فى مناسبة وطنية هذه المرة .وهى عيد اعلان الجمهورية . وأيضا فى الذكرى السنوية الثانية لاغتيال شهيد الارهاب النائب محمد البراهمى . ولقد لا حظت ان الحكومة استجابت خلال النقاش البرلمانى بادخال بعض التعديلات فى اللحظة الأخيرة على القانون الجديد وبما يعزز بناء أكبر تحالف مجتمعى ممكن ضد خطر الإرهاب . ولا يقتصر الأمر فى هذا التحالف على ان حزب النهضة الإسلامى ( ثانى كتله برلمانية و شريك فى الحكومة ) لعب دورا مهما فى تمرير القانون . بل والتشدد فى الصياغات الرادعة للجرائم الارهابية . بل كان لافتا الدلالة الرمزية لكون نائبه عبد الفتاح مورو ومن موقع نائب رئيس البرلمان هو الذى افتتح جلسات النقاش وادارها . ولكنى أود هنا ان اشير على نحو خاص الى تعديلين فى اللحظة الاخيرة : الأول استجاب للصحفيين والأطباء باحترام سر المهنة . والثانى يسن عقوبة السجن لعام واحد والغرامة لمن يسىء استخدام التنصت المصرح به فى القانون فى غير اغراضه. وفى ذلك سعى لتهدئة لمخاوف اثيرت فى بداية النقاش من استخدام هذه الرخصة الاستثنائية ضد الخصوم السياسيين . ولعل من المفارقات ايضا أن القانون الجديد يعتمد عقوبة الإعدام فيما كانت غائبة عن قانون 2003 . وعلى كل حال فان تونس فعليا لم تطبق أى حكم بالإعدام منذ مطلع عقد التسعينيات . ومع هذا فإذا شئنا تلخيص ابرز مقاصد القانون الجديد يمكن الاشارة الى الاحاطة بتطورات الظاهرة والتشدد فى ردع الجرائم والتعهد باحترام حقوق الانسان بما فى ذلك المعايير الدولية للمحاكمة العادلة . لكن العبرة تظل بتطبيق القوانين وليس بالنصوص وبهائها . ولعله من تحصيل الحاصل القول بأن القوانين لا تكفى وحدها لمعالجة ظاهرة بخطورة الإرهاب . فالقانون الجيد لاقيمة له ان لم يجد بيئة مواتية من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . والسؤال المطروح هنا هو الى أى حد سينجح مؤتمر الحوار الوطنى المقرر له الخريف المقبل فى تونس حول ظاهرة الارهاب فى هذه المهمة ؟ . أما بخصوص القانون الجديد تحديدا فان الاختبار التونسى يتمثل فى جانبين . أولهما محلى يتمثل فى النجاح بمكافحة الارهاب مع التقدم على مسار الديمقراطية وحقوق الانسان والمواطنين . والثانى يتعلق بتوظيف حصاد التجربة التونسية فى هذا المجال و بما فى ذلك القانون الجديد لإعادة بناء استراتيجية اقليمية حديثة متطورة ومختلفة ضد الإرهاب .وهذا بحكم تنامى الأبعاد العابرة للحدود الوطنية لهذه الظاهرة . وفى الحالتين فان المهمة ليست سهلة . لمزيد من مقالات كارم يحيى