إذا صحت رواية أسرة الأديب السكندرى السجين عمر حاذق ومحاميه واصدقائه عن ملابسات الحكم عليه بعامين وغرامه 50 ألف جنيه وسجنه بقانون التظاهر وأظنها صحيحة فإن هذا الشاب المبدع الموهوب قد راح بدوره ضحية الاخلاص لعبارة نيلسون مانديلا الخالدة: «ليس حرا من يهان أمامه انسان ولا يشعر بالإهانة». ولقد عدت فى الأيام الأخيرة الى تجميع أطراف ماجرى لعمر بعد أن قرأت روايته «لا أحب هذه المدينة» فبهرتنى بلغتها الجميلة المكثفة وروحها المصرية الفلاحية وغناها بالتاريخ القديم و بالتراث والمعتقد .كما اخذتنى لألمس حياة الفلاحين المصريين الفقراء فوق هذه الأرض منذ انتقال تاريخنا وايماننا من الآلهة الفرعونية الى الحقبة المسيحية . وأظن ان أديبنا قدم نصا قصصيا نادرا يعيد اكتشاف الروح المصرية على لسان هذا الراوى الفنان الفلاح رسام البورتريهات الشعبية المسمى ب «حورس» ورحلته من قريته بالفيوم الى الاسكندرية ليعود اليها و ماء ترعتها. وعندما قرأت روايته التالية «قلب السمكة» عن الشاعر البغدادى «أبى الحية» الذى يأبى نفاق السلاطين والأمراء ولو عاش ومات فقيرا معدما أدركت ان نصوص أديبنا الحاذق هذه المستلهمة من دفاتر التاريخ وثيقة الصلة بحاضرنا ومستقبلنا . لكن عمر شاء ان يتحدث بنفسه عن هذا فى مقدمة روايته هذه التى كتبها فى عتمة السجن فقال :«حين حكم الرئيس المعزول محمد مرسى البلاد وأساء فى ذلك كثير الاساءة حتى كاد يهدم وطننا على رءوسنا كتبت روايتى الأولى.وكان من دوافع كتابتها رغبتى فى البحث عن هوية ما لشعبى غير هويته التى طرحها مرسى، لذلك تعاطيت مع التاريخ المصرى القديم وفترة انتشار المسيحية بين المصريين. أما فى هذا النص فأظن ان تاريخ شاعر عظيم كأبى حية كان بحثا ما عن هوية لى أنا أمام سلطة قامعة باطشة قتلت فرحتى بسقوط مرسى». عمر حاذق وأسرته و أصدقاؤه وقراؤه كانوا فى انتظارخروجه الى الحرية ولو بثلاثة أرباع المدة التى انقضت بحلول أبريل الماضى . لكن عبثا مازال هناك فى عتمة السجن. يجاهد اكتظاظ الزنزانة فى هذا الصيف القائظ مع أكثر من عشرين سجينا.وينتظر دوره لقضاء حاجته. ويبحث عن ضوء كى يستمر فى كتابة أشعاره ونصوصه الروائية. وربما يؤجل التفكير فى فرص العمل بعدما قامت مكتبة الاسكندرية التى كان يعمل بها بفصله بدعوى تأييد الحكم ضده. وبدلا من ان يلقى تكريما على إبداعه مماثلا لما قدمته له هيئات ومحافل فى ايطاليا والبوسنة والشارقة و ترجمة اعماله الى لغات عدة سارعت ادارة المكتبة الى التخلص من هذا الشاب المبدع، الذى طالما تصدى للفساد المالى والإدارى . ومع ان روايته الثالثة المطبوعة «روائى المدينة الأول» تدور فى اجواء فانتازيا داخل المقابر وما بعد الموت فإنها لاتخلو من بهجة الأمل وحب الحياة . هذا الأمل الذى يمسك به عمر حاذق ورفاقه وجيله رغم الاخفاقات و الاحباطات . وليس أولها ولا آخرها ماوصلت اليه قضية مواطنه السكندرى أيقونة الثورة خالد سعيد. وعلما بان عمر ورفاقه القى القبض عليهم خلال وقفة تضامن مع هذه القضية فى 3 ديسمبر 2013. ولقد عثرت فى قصائده من السجن التى تفضلت شقيقته السيدة زهراء حاذق بارسالها عبر البريد الالكترونى على المزيد من هذا الأمل وهذه البهجة التى تخترق العتمة. كتب فى يناير الماضى من الزنزانة رقم 5 عنبر 23 بسجن الغربانيات ببرج العرب قصيدة «التفاحة كانت يوما فى بستان» فانهاها قائلا: «دوت أجراس الإنذار/ الحراس المذهولون جروا خلف أغانينا/ حتى وجدونا نكنس اشلاء القضبان / نبرقش ظلمة ليلتنا بنجوم الألحان / حين ارادوا الامساك بنا جنوا / لم يعرف منهم أحد أيا منا التفاحة / أيا منا الانسان ز. وعاد فى مارس لينظم قصيدة بعنوان ز اذا ما لقيتك يامصر يوما «ليبشر فينا :سوأحمل زادى / من الأمل البكر أجمعه / ومن الدمع بعضه / أفكر فيك / وأنظر هذا الشعاع الصغير / رسولا من الشمس قربى / يغافل قضبان زنزانتى بين فرح ورعب / يرفرف ينثر فى فتاتا من النور / ينقرنى مثل عصفورة فأطيب». وفى مايو الماضى ينهى قصيدته «أغنية حب لماما «بهذه الأبيات» : أهواك ياوطنى رغم ما سمتنى من هوان وبخس / وياأم كل جميل بعمرى افرحى بى / فمازال قلبى كوب حليب بطعم الفراولة / إن سرت فاض /وإن زرعوا الدرب شوكا ، فحبك فأسى». ولقد تمسكت بالكتابة عن هذا الأديب السجين حتى بعدما دهمتنا أحداث الارهاب الاخيرة. لأن اقامة العدل واماطة الظلم عن الناس هما أول الطريق لمكافحة شرور الإرهاب. ولا يمكن الحديث عن حرب جادة ضد الإرهابيين فيما زهرة شبابنا الواعد عاشق الحضارة والحياة والحرية كعمر حاذق ويارا رفعت سلام و ماهينور المصرى وعلاء وسناء أحمد سيف وغيرهم فى السجون بقانون جائر يخالف الدستور ومواثيق حقوق الإنسان. وكل منهم وراءه حكايته وتميزه وأمامه مستقبل وأمل. وبعمل وعطاء وابداع هؤلاء الشباب يمكننا ان نقاوم بحق ثقافة الموت والارهاب وكراهية الوطن. فافتحوا أبواب الزنازين.. ومعها نوافذ الحرية. لمزيد من مقالات كارم يحيى