هو يعيش فى حياتي، وليس فى ذاكرتى منذ أشرق على وجودى أستاذًا تعلمت عليه منذ 1958طالبًا ثم معيدًا، وإلى ما بعد رحيله فى 19 مايو 1965. استوطن شيخى فى كيانى منطقة الاستثناء، لافتتانى بتآزر علمه وثقافته واتساعهما، وشمولية احتشاده والتحامه بهموم الشأن العام، واستقطابه قضية العدالة الاجتماعية مدارًا لنضاله السياسي، فدافع عنها بعزم لا يفتر، تأسيسًا لمفاهيم وإنتاجا لأفكار، وتفكيكًا لرموز الواقع ومستغلقاته، وتحليلاً لمشكلاته، وعيًا بالتغيير، واستيعابًا له، بما يطرحه من مستقبل يتضاد مع كل نواقص الحاضر ومساوئه، كمشروع نهضوى إنسانى اختلافي، لا يغتصب فيه مفهوم العدل والإنصاف. كانت المرحلة من عام 1958 إلى 1965 هى التى عايشتها فى صدر العمر، مع شيخى الجليل د. مندور، شيخ نقاد مصر، الذى حبانى خلالها بالعلم والحب والفضل والدعم، وحمانى أيضًا من التهويمات والمآزق والهشاشة والتعثر، إذ كنت شديد الحرص على الاستماع إليه وتدوين ما يقوله، أما هو فكان يرفض أن أماثله، وكانت جملته الشهيرة لي: مندور لا يريد أن ينتج أعدادًا أخرى من مندور، ليكون له فرع فى كل مكان، وقد شاغبته مرة بقولي: إن وجهى الداخلى هو وجهك أنت، فضحك ساعتها، ثم أفصح لى إننى مهما أبذل فوجهه يمتنع علي؛ لأنه هو نفسه لا يرغب لى أن أكون هو، بل يريدنى أن أكون نفسي، أن أكون حرًا، وألا أقبل رأيًا دون فحص ومساءلة وفهم، وإن كان الرأى المطروح يفرض إذعانا، فالتمرد لابد أن يكون هو الرد، لكنه حذرنى من التمرد اليائس الذى لا يعرف كشفًا، ولا ينتج حقيقة، ولا يغير وضعًا. صحيح أن الإنسان فى هذا العالم هو كائن المغايرة أساسًا، وصحيح أيضًا أن د. مندور على مدى مراحل عمره، قد أعاد إنتاج نفسه بمراجعاته مفاهيم سابقة كان يناصرها فى الأدب والنقد والسياسة؛ إذ باشتغاله على أفكاره عبر الفاعلية النقدية استطاع أن يتخطاها إلى قناعات مغايرة، لكن الصحيح أيضًا أن الرجل لم يتخل يومًا عن قناعاته إذعانًا لأى ضغط، أو التغاضى ضعفًا عن منظومة القيم العامة الحاكمة لسلوكه؛ بل تحمل عذابات السجن لاثنتين وعشرين مرة، مواجها المحاصرة المدنية، وقطع موارده، رافضًا الرشوة بتعيينه سفيرًا بالخارج، ولم يبع قلمه وحريته لأحد؛ إذ الرجل كان متهيئًا للإنجاز، متسلحًا برغبة عارمة فى نضال شريف متجرد من المتواريات، مهما تكن المحن والابتلاءات. يجرى تعريف الوجود فى العالم الذى نعيشه بأنه الوجود فى وطن الاختلاف، وثمة اختلاف فى حياة د. مندور أصاب علاقته مع أستاذه د. طه حسين، صاحب الفضل والدعم فى تغيير مسار توجه حياته، الذى حثه على دراسة الآداب إلى جانب القانون، إدراكًا منه لإطلالات الميل لموهبته الأدبية, وتجليات ذكائه ونبوغه، ثم رشحه فور تخرجه للسفر إلى فرنسا، فاعترض المجلس الطبى على سفره, وأنهى د. طه حسين بجهده الشخصى تلك العقبات، وسافر مندور للحصول على الدكتوراه فى الآداب. اشترط د. طه حسين فى الخطة التى وضعها لمستلزمات دراسته خلال البعثة، ضرورة حصوله على ليسانس جديد من السربون، فى اللغات والآداب اليونانية واللاتينية القديمة والفرنسية، والاتصال بالمستشرقين وحضور محاضراتهم، ثم إعداد رسالة عن الأدب العربي. قضى مندور بدلاً من أربع سنوات تسع سنوات يدرس المقررات، ممارسًا قراءة ذاتنا من خلال الآخر الذى يعايشه، تدفعه إرادة الإفلات من التنميط إلى الانفتاح على مختلف معطيات المعرفة، بحثًا عما يجعل مجتمعًا قابلاً للتغيير وقادرًا عليه. وحصل على الليسانس فى التخصصات المطلوبة، مستبدلاً باللغة اللاتينية وآدابها دبلوميتن، أحداهما فى الصوتيات، والثانية فى الاقتصاد السياسى والتشريع المالي، وعاد دون الحصول على الدكتوراه. رفض د. طه حسين قيامه بالتدريس بقسم اللغة العربية، فعهد إليه بتدريس الترجمة من الإنجليزية وليس الفرنسية إلى العربية، وبعد حصوله على الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1943، رفض د. طه حسين طلب تعيينه فى جامعة الإسكندرية التى كان يرأسها، وأعلن أيضًا عدم اعترافه بتلك الدكتوراه. أدرك د. مندور أن ثمة انتكاسة حفت بعلاقته بأستاذه، ولدت تضادًا حادًا شل العلاقة وأسكنها حالة استحالة المراجعة، تبدى سعيها فى التربص والمطاردة نيلاً من المصير؛ لذا استقال عام 1944 من الجامعة كى لا يواجه أستاذه. ولا شك أيضًا أنه عانى صراعًا داخليًا مكتومًا بين إحساسه بجدارته التى اكتسبها وامتلكها، بفضل دعم أستاذه وحدبه؛ وبين العنف الحاد المستبد الذى واجهه منه تحديدًا، والقضية ليست فى الحصول على استحقاقه؛ بل أيضًا فى اعتراف أستاذه خاصة بجدارته واستحقاقه، وإن كان قد عاش عمره كله أسير صنيع أستاذه، وذلك ما سجله فى أول كتاب أصدره عام 1943 بعنوان فى الميزان الجديد، الذى يحمل اعترافًا بما أسبغه عليه من فضل، وظل اعترافه يتجدد كل غد؛ إذ فى إحدى جلساتنا الخاصة عام 1963 سألته: ماذا لو أن د. طه حسين لم يكن فى حياتك؟ فأجابنى على الفور: ما كنت سأكون مندور الذى يجلس أمامك الآن. صحيح أن الأحداث متفاصلة عبر الزمان، وصحيح أيضًا أنها قد تتكرر، وقد لا تتشابه، لكن المهم أن تكشف بوضوح عما تثيره إدراكيًا، بأن تسمح بولادة المعني. كان شيخنا الجليل رئيسًا لقسم النقد والأدب المسرحي، وقد درسنا عليه أربع سنوات، ويتطلب التخرج اجتياز الامتحانات فى المواد التى درسناها، لكن حصاد هذه الدراسة يتجلى فى مشروع التخرج، وهو بحث مكتوب يعده الطالب تحت إشراف أستاذنا د. مندور، وقد اخترت الموضوع وأعددت خطته ومراجعه، وراح أستاذنا يستمع إلى ما يطرحه كل منا، ويناقشه ويقره، وما أن جمعت أوراقى لأعرض ما أعددت، إذ بشيخى يوقفني، ويفرض موضوعا من اختياره. ولأن الموقف الطارئ غير المتوقع تبدى لحظة وقوعه أنه آت من المجهول، فإننى أصبت بصمت تام، تصوره شيخى امتثالاً، فى حين أنه كان رفضًا دون ممكنات. جرت محاولات تفاصيلها كثيرة، لكننى أعترف بأنه استعصت عليَّ مواجهة شيخى برفضى الموضوع، فقررت الاشتغال على خياري، دون أى تصور لما سيكون. وقبل المناقشة العلنية، جلست إليه لأقرأ عليه، وما أن قرأت عنوان البحث، حتى استوقفنى متسائلاً عما كلفت به، فأجبته بأننى لم أوافق على كتابة ذلك البحث. تجهم وجهه لكنه كظم غضبه، وظل يستمع متقنعًا بالصمت والسكون، وعندما انتهيت تركنى صامتًا، فأدركت أن المحنة قد حلت. وأمام لجنة المناقشة التى يترأسها شيخي، وضمت فى عضويتها د. محمد القصاص، ود. غنيمى هلال، كانت المفاجأة فى تلك الفرحة التى تبدت على وجهه، واحتفائه بالبحث احتفاءً جعلنى أتسمر فى مكاني، وبعد المناقشة نشر فى صحيفة الجمهورية مقالاً احتفاءً بالبحث بعنوان «الجيل الصاعد يصحح المفاهيم» واتخذ إجراءات تعيينى معيدًا، فأغلق كل منفذ نحو ما بعد، ويبقى غيابك يا شيخى غيابًا لمعنى. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى