لا أتصور أن هناك مثقفا بالمعنى الدقيق للكلمة يمكنه أن يكون بعيدا عن السياسة ..فالمثقف حامل لمشروع التغيير والتجدد المعبرعن طموح وتطلعات الأمة والداعي لإحيائها ونهوضها ووضعها في المكان اللائق بها بين الأمم الحية الفاعلة..المثقف منشغل بالشأن العام للأمة ومتابعته وتطويره..وتوسيع مداه بتعزيز مشاركة الجماهير فيه إضافة إلى دوره في تعيين وتعريف الشؤون الحياتية العامة التى قد يتحير فيها الناس.وتعميق وتجديد الإدراك والإحساس بالذات والحياة والوجود. كما لا أستطيع تصور سياسي غير مثقف ..فممارسة السياسة بدون ثقافة فيه حط من شأن السياسة إذ وقتها تمارس كأنها شكل من أشكال تنازع المصالح التي يختلط فيها الخاص بالعام والشخصي بالموضوعي.وظاهره السياسي غير المثقف تملأ حياتنا العامة للأسف..حتى لدى السياسيين المنطلقين من خلفيات فكرية وهو الأمر الشديد الوضوح في اغلب جيل السبعينات من الإسلاميين.ولعل هذه الظاهرة تعود إلى نسبة العمال والفلاحين التى جاءت مع حركة 52.. أقول هذا و بين أيدينا نموذج للمثقف السياسي بامتيازوأعنى محمد مندور(الذي تمر بنا هذا الشهر ذكرى رحيله في العام 1965م ) يبدو لنا ذلك من بداية حياته الجامعية حيث درس الحقوق والآداب وتخرج من الاثنتين في عام واحد ثم ذهب إلى فرنسا ومكث بها تسع سنين ثم عاد ومارس التدريس الجامعي وتحول بعدها كليه إلى العمل السياسي و الصحفي ..وعرض عليه منصب سفيرمصرفي سويسرا في عهد حكومة صدقي ورفض..ثم جاءت حركه 52 وكما ذكرت أبعدت السياسة عن الثقافة ..وأصدرت قرارا بمنع العمل السياسي على كل من مارس السياسة قبل 52 وكان مندورعضو مجلس النواب فى حكومة الوفد ورئيس لجنه التعليم في البرلمان وعضوا فى اللجنة المالية ومقررا لميزانيه وزارة المعارف..كان نجما ساطعا فى عالم السياسة..فسرى عليه ما سرى على كل المصريين وتفرغ تماما للإنتاج الأدبي .. وكان الأستاذ العقاد قد سبقه إلى ذلك حين أدرك بعبقريته اللامحة أن هذه السنين ليست سنين المثقفين والمفكرين إنما هي سنين العمال والفلاحين والضباط ومن يسير فى ركابهم ..فاشترى كرامته وتفرغ هو الأخر للعمل الفكري..وأنتج أبدع أعماله خلال هذه الفترة وهى (الإسلاميات) ولعله كان بذلك يدافع عن المكنون الحضاري والثقافي للأمة المصرية التي ألت إلى ما ألت إليه . وأريد من الحديث عن مندور -رحمه الله - وذكراه أن أشير إلى عدة نقاط : * ضرورة اشتغال المثقفين بالسياسة فهم أولى الناس بهذا الدور كما أوضحت أولا .. وضرورة تثقيف السياسيين ثقافة الفكر وثقافة السلوك. فليس مفهوما أن يتحدث احدهم عن اليوتوبيا والديمقراطية الجفرسنيه..وهو يمارس التسلط و يمهد للطغيان ويغرق لأذنيه فى التوحش الرأسمالي ..هذا النموذج الكذوب أبعد ما يكون عن الثقافة التي تعنى عمق الإدراك وسلامة القلب ورجاحة الحكم ورهافة الحس..أما نموذج اليوتوبيا الجفرسونيه..فهو النموذج الذى سماه الشاعر احمد فؤاد نجم (الأستاذ يويو) ..وصدق من قال العُدم.. عٌدم العقل لا عدم المال. * هذا الخلاف الذي نشأ بين د.طه حسين وتلميذه المحبب محمد مندور..فما حدث هو أن د.طه حسين دخل ذات يوم من العام 1925م على تلاميذه وألقى عليهم محاضرة وبعد انتهائه منها طلب منهم كتابة ملخص للمحاضرة في خمس دقائق وفى اليوم التالي عاد ليعلن أن أحسن تلخيص هو للطالب محمد عبد الحميد مندور.ومن يومها اهتم الأستاذ بتلميذه وسانده مساندة عظيمة.. ثم كان أن تطورت الأمور وأخذت اتجاها سيئا بعد عودة مندور من فرنسا..وتتعجب حين تعلم أن هذا الأستاذ العظيم حارب تلميذه في(أكل عيشه) كما يقول المصريون الطيبون..لأنه بدأ رسالته للدكتوراة تحت إشراف أحمد أمين ولا تملك إلا أن تتساءل لم كل هذا اللدد فى الخلاف..ولم الاقتراب من موضوع الطعام ومصاريف البيوت؟ أبغرض الإذلال التام والسحق الزؤام..؟ وكيف لأستاذ جامعي ومفكر كبير خرج من القرية الأصيلة أن يفعل ذلك..وهو الموقف الذي صاحبه موقف مشابه مع د. زكى مبارك الذى لم يجد حرجا فى أن يقول لو(جاع أولادي سأطعمهم من لحم طه حسين ) لم كل ذلك..؟ لماذا لا يبقى الخلاف الموضوعي فى حدوده موضوعه ويبتعد عما هو شخصي وأسرى..(الرئيس عبد الناصر حين اختلف مع كمال الدين حسن طرد ابنه من الكلية الحربية و منعه من السير في جنازة أبوه) ألسنا نعيش جميعا حياة عابرة لا يفصلها عن الموت إلا فُسحه نَفَس. * الخلاف الجميل الذي نشأ بين مندور وسيد قطب عن ما سماه مندور وقتها (الأدب المهموس) ..واختلف معه الأستاذ سيد وقال هناك فقط (أدب صادق)..وكتب سلسلة مقالات فى مجله(الرسالة) ردا على هذه الدعوة وانتقد فيها مندور بشدة..ورغم حبي الشديد للأستاذ سيد إلا اننى رأيت فى (الأدب المهموس)هذا مسا وجدانيا وألفة وحنينا عطوفا مليئا بالأسرار..فالأدب هو عناق الروح للروح ودقات القلب للقلب.. ومن عجب أن هذه المعاني كلها رأيناها فى ظلال القرآن..صحيح كانت همسا هادرا في بعض الأحيان لكنها كانت وجدانا ينطق وعاطفة تبوح . رحم الله الجميع وغفر لهم.. فقد أفضوا إلى ما قدموا ..أحسنوا فيما أحسنوا وأساءوا فيما أساءوا ..لكنهم تركوا لنا تراثا عظيما وارثا مجيدا . [email protected]