رسالة الدكتوراة التي نالها طه حسين حدث مهم في حياته وبالنسبة له، لكن الرسالة تحمل أهمية أكبر بالنسبة للجامعة المصرية ومن ثم فإن الرسالة وصاحبها جزء من تاريخ الجامعة، ومن حسن الحظ أن طه كان مدركاً لهذا المعني، لذا راح يحدثنا في تقديمه للرسالة ولطبعتها الأولي عن حال الجامعة وما أحدثته في مصر والدور المتوقع منها.. وفي العادة يتقدم الباحث لنيل الماجستير أو الدكتوراة بعظيم الشكر وجزيل العرفان لأساتذته ويخص منهم بالاسم أستاذه الذي قبل الإشراف علي الرسالة وتجشم المتاعب في سبيل ذلك ثم يتوالي الشكر علي أعضاء لجنة المناقشة والتحكيم وتوجيه الشكر إلي أفراد أسرته، الأب والأم والزوجة. طه حسين نحا منحي آخر في رسالته، هو توجه بالشكر إلي الجامعة ذاتها، الجامعة المصرية، يقول في ذلك» ونحن نرجو أن يكون الله قد وفقنا إلي أن نمثل بهذا الكتاب ما نحب أن نمثله، من ثنائنا العطر وشكرنا الجزيل، واعترافنا بالصنيعة للجامعة المصرية التي قضي الله أن نكون أثراً من آثارها". ثم يواصل الشكر المقرون بالمسئولية، الذي سيلزم بها نفسه طوال حياته »وإنّا لنري هذا لأنفسنا شرفاً ولقدرنا رفعة، ولشأننا نباهة، ونحرص أشد الحرص علي أن نؤدي إليها ما لها علينا، من حق العمل الصالح في فهم العلم وتحقيقه وإباحته للناس«. الجامعة لها عليه حق، يلزم نفسه به، وهو حق علمي بالأساس، في أن ينصره ويدفعه إلي الأمام وتحقيق العلم والأهم من ذلك إباحته للناس، أي المجانية، ولنلاحظ أن ذلك الذي يكتب هذا الكلام لم يتعلم مجانياً بالجامعة المصرية، بل كان يدفع مبلغ 2 جنيه (جنيهان) كي يكون له حق حضور المحاضرات والانتظام في الجامعة، وتثبت الوثائق المتاحة أنه لم يدفع هذا المبلغ مرة واحدة، بل دفعه بالتقسيط، فقد عثرنا علي إيصال بمبلغ خمسين قرشاً، دفعها ومكتوب أمامها أنها باقي المبلغ الذي كان مقرراً دفعه. كانت المؤسسة »الجامعة« هي التي تعنيه في المقام الأول، لذا راح يفصل الشكر، دفع بجزء منه إلي مجلس الإدارة أو ما يسمي- الآن- مجلس الجامعة، في الجامعات الحكومية، ومجلس الأمناء في الجامعات الخاصة والأجنبية، ويطلق عليهم »أولئك الذين جدوا في خدمة الجامعة وإنهاضها«.. غير الإدارة هناك فريق أو طرف آخر يستحق الشكر وهم »طائفة الأساتذة« وهم عنده »الذين قامت بهم الجامعة، وأولئك الذين اشتركوا في تكوين حياتنا العقلية«. الجامعة إدارة وأساتذة، ويندر اليوم أن نجد من ينتبه إلي ذلك، بعد المؤسسة يأتي الحديث عن الجانب الشخصي أو الخاص، وهو يشكر أساتذته بأوضح الكلمات، ولم يشكر أساتذته بالجامعة فقط، بل وكذلك مشايخه الذين تعلم عليهم بالأزهر، ورغم أنه اختلف مع عدد من أساتذته بالأزهر وكذلك اختلف مع أحد أساتذته بالجامعة، أثناء مناقشة الدكتوراة ولكن ذلك لم ينعكس علي مشاعر الشكر والتقدير لديه.. »نسجل اعترافنا بالجميل لأساتذتنا المصريين والإفرنج في الجامعة، ولأساتذتنا في الأزهر الشريف، لا نستثني منهم أحداً، ولا نفرق بينهم في الإجلال والإكبار«. لم يكن ما ذكره طه حسين في هذا السياق، وليد رغبة في المجاملة، ولا كلاما مرسلا في لحظة نشوة بمناقشة الدكتوراة أو شعورا غامرا بالامتنان للجامعة ولأساتذته، ولا هي من باب »النفاق الاجتماعي« الذي دأب كثيرون منا علي ممارسته الآن، بالتأكيد كان سعيداً بما حققه والإنجاز الذي قام به وبالتأكيد كان ممتناً لأساتذته وللجامعة التي احتضنته، ولكنه كان أيضاً علي وعي بأهمية الجامعة والإضافة التي تقوم به بالنسبة للبحث العلمي ولدراسة الأدب تحديداً، هو كان خبر جامعة الأزهر وقضي بها نحو ستة أعوام، بين عامي 1902، حين جاء من قريته، وعام 1908 حين قرر مغادرة الأزهر نهائياً إلي الجامعة المصرية، وهذا ينعكس بوضوح في مقدمته للطبعة الأولي لرسالته عن أبي العلاء المعري وفي موقفه من المعري عموماً. كان المعري مصاحباً لطه حسين في الجامعتين، في الأزهر وفي الجامعة المصرية، في الجامعة العريقة، كره المعري بشدة ورفضه تماماً، وفي الجامعة الوليدة- آنذاك- تغير موقفه من المعري وتعاطف معه، بل أحبه ومن ثم قرر أن يتخصص فيه ويدرسه، وأن يظل مرتبطاً به طيلة حياته.. وبين الحالين ظهر الفارق بين الجامعتين وتبين له مزية الجامعة الجديدة. كراهية أو بغض المعري يعود إلي أستاذه الجليل بالأزهر الشيخ المرصفي، الذي ظل يعتز به ويشيد به، يصفه في مقدمة "تجديد ذكري أبي العلاء" بأنه أصح من عرفت بمصر فقهاً في اللغة، وأسلمهم ذوقاً في النقد، وأصدقهم رأياً في الأدب، وأكثرهم رواية للشعر لاسيما شعر الجاهلية وصدر الإسلام. ولكن أستاذه في تدريس الأدب لا يعنيه إلا »اللغة والنقد« لا يشغل نفسه ببقية الأمور في الشعر، ولا يحب أي شاعر مجدد، حتي لو كان في قامة المتنبي والمعري ومسلم بن الوليد وحبيب بن أوس، هؤلاء بتعبير طه حسين »تكلفوا البديع وأخضعوا المعني للفظ، وتعمقوا في درس مذاهب الفلاسفة« ومن ثم فإن درسهم- عند الأستاذ- »خطل والعناية بهم حمق«. في الجامعة المصرية اختلف الأمر، هو درس في قسم الآداب، قبل أن يصبح كلية الآداب، وكان في هذا القسم عدد من المستشرقين، جاءوا من إيطالياوفرنساوألمانيا، ومنهم تعرف علي »فنون من النقد« وتلقي »ألوان من الدرس« لم يكن له بها عهد من قبل ولا معرفة.. أستاذه المرصفي، لم يكن معلماً بقدر ما كان موجهاً ولا كان مدرساً للأدب، بل متذوقاً له، وبالأحري تجاهل ما لا يرون لذائقته الأدبية وما لا يرضيه، نبين طريقة أن دارس الأدب عليه أن يدرس ويقرأ من الأدب جيده ورديئه. من يدرس تاريخ الأدب، لا يقف عند تاريخ الشعراء فقط وتناول سيرهم وحدهم، بل لابد له من علوم أخري مساعدة، في الأزهر تعلم أن دارس تاريخ الأدب يكتفي بتناول »علوم اللغة وآدابها« وأن يتقنها، وإلي جوار ذلك يجيد البحث عما في القاموس واللسان وما في المخصص والمحكم، وهي كما تري أسماء وعناوين لكتب أربعة اشتهرت في التراث العربي أهمها القاموس المحيط ولسان العرب. في قسم الآداب وبفضل الأساتذة من المستشرقين وجد أن دارس تاريخ الأدب عليه أن يلم ويستوعب علوم الفلسفة والدين« وعليه كذلك أن يدرس »علم النفس للأفراد والجماعات« حتي يستوعب ما ترك الكاتب والشاعر من أعمال، وهو كذلك مطالب بأن يعرف أصول اللغة القديمة أي لغة بالضبط.. لم يشرح لنا بالتفصيل، لكن في حالة المتنبي والمعري، لابد أن يدرس الباحث اليونانية القديمة فقد تأثرا بالفلسفة اليونانية، وربما السريانية كذلك. المهم أن الأفق اتسع، وبدأ يري الشاعر والكاتب ليس باعتباره موهبة خاصة، بل نتاج ثقافة وثقافات عدة، يتأثر بالأفكار والفلسفات المحيطة به وكذلك اللغات، وينعكس عليه المزاج العام، والمحاكاة النفسية والاجتماعية للمجتمع الذي يعيش فيه، ويخلص طه حسين من ذلك إلي نتيجة، أظن أنها كانت صادمة لكثيرين وقتها، وربما تكون صادمة إلي اليوم، لكنها تبدو صحيحة إلي حد كبير، يقول: »وإذا اللغة العربية وحدها لا تكفي لمن أراد أن يكون أديباً أو مؤرخاً للآداب حقاً، إذ لابد له من درس الآداب الحديثة في أوربا، ودرس مناهج البحث عند الفرنج، بل ما كتبه الأساتذة الأوربيون في لغاتهم المختلفة عما للعرب من أدب وفلسفة ومن حضارة ودين. ما توصل إليه طه حسين، جعله يعيد النظر فيما تعلم من شيخه المرصفي، لم يستبعده كله، ولكن أضاف إليه، تمسك من دروس الأزهر وشيخه الجليل بما يسميه »دقة النقد اللفظي« والحرص علي إيثار الكلام إذا امتاز بمتانة اللفظ ورصانة الأسلوب. لم يتمرد طه حسين علي القديم كله، ولا رأي الاكتفاء بالجديد أو ما تقدمه الجامعة المصرية، هو وضع كل منهما في سياقه ورصد إيجابياته وأهميته للدرس وللدارس، في نص مهم بالمقدمة أن مذهب الشيخ- الأستاذ- المرصفي- نافع النفع كله إذا أريد تكوين ملكة في الكتابة وتأليف الكلام وتقوية الطالب في النقد وحسن الفهم لآثار العرب.. وهذا وحده لا يكفي برأيه للطالب والباحث في تاريخ الآداب علي المنهج الحديث. أما المنهج الجديد أو الأسلوب الذي استحدثته الجامعة المصرية في دراسة الآداب العربية، فهو بعده »نافع النفع كله لاستخراج نوع من العلم لم يكن لنا به عهد مع شدة الحاجة إليه، وهو تاريخ الآداب تاريخاً يمكننا من فهم الأمة العربية خاصة، والأمم الإسلامية عامة فهما صحيحاً، حظ الصواب فيه أكثر من حظ الخطأ، ونصيب الوضوح فيه أوفر من نصيب الغموض.. وسوف نلاحظ أنه هنا يتحدث كباحث، وهو لا يعطي مصداقية مسبقة للمنهج الحديث، لكنه سيساعدنا علي الفهم، فهما يحتمل الصواب والخطأ، ولكن احتمال الصواب أكبر لأنه يستند علي قواعد علمية واحتمال الوضوح أكبر كثيراً من احتمال الغموض، ونسبة الوضوح والصواب تزداد مع الحرص علي استعمال أدوات ذلك المنهج، ذلك ما تعلمه من الجامعة وجعله يعيد اكتشاف المعري ويقبل علي دراسته والتخصص فيه. وهو ينتهي إلي ضرورة الجمع بين القديم والجديد، ولست أزعم أنا لسنا في حاجة إلي درس الآداب علي المنهج القديم، بل أقول »أنا في حاجة إلي المنهجين معاً« وكان هو من المحظوظين- فعلاً- حيث أتيح له درس المنهجين معاً، القديم والجديد، جامعة الأزهر والجامعة المصرية، وتعلم من القديم متانة اللفظ ورصانة الأسلوب، وتقوية ملكة الإنشاء لديه ومن الجديد تعلم دروس وفهم تاريخ الأدب العربي، وما ينطوي عليه. تحدث طه حسين عن تجربة شخصية وخبرة خاصة بالجامعتين أو المدرستين العلميتين، وكان متفائلاً وسعيداً بالجامعة المصرية، لكن تجربته مع الجامعة تعود إلي سنة 1908، وما تلاها من سنوات، حيث كانت الجامعة تستعين بالمستشرقين والأساتذة الأجانب، هو نفسه درس علي سانتيلانا دنلليتو، ثم جرت في النهر مياه كثيرة، والذي حدث أن عام 1914، شهد تحولاً بالنسبة للجامعة، حصل طه حسين علي الدكتوراة، وهكذا صارت الجامعة تمنح خريجيها الدرجة العلمية الرفيعة »الدكتوراة« لكن العام نفسه شهد نشوب الحرب العالمية الأولي، وما ترتب عليها من أجواء عاصفة وسياسة متقلبة، والذي حدث أن الأساتذة الأجانب انصرفوا عن الجامعة، بينهم من سافر إلي أوربا ولم يتمكن بسبب الحرب من العودة ثانية إلي مصر، وبينهم من بات صعباً عليه أن يبقي في مصر، خاصة الألمان، كانت مصر تقع تحت الاحتلال البريطاني وفرضت بريطانيا الحماية عليها، وكانت بريطانيا تخوض الحرب ضد دول المحور، وتحديداً ألمانيا، وهكذا بات صعباً علي الأساتذة الألمان البقاء في مصر، إذ صنفتهم بريطانيا العظمي في خانة الأعداء، ودفعت الجامعة الناشئة الثمن، يضاف إلي ذلك أن الأحوال المالية للجامعة لم تكن علي مايرام، في ظل الحرب، وهكذا لم يكن متاحاً لها أن تستقدم أساتذة آخرين، يحلوا محل أولئك الذين لم يتمكنوا من العودة أو من اضطروا إلي المغادرة. انعكس ذلك المشهد سلباً علي الجامعة، وصولاً إلي ما يشبه المسخ العلمي، فلا هي علي غرار الجامعة القديمة، ولا احتفظت بطابعها الجديد أو الحديث، هو نفسه يقدم وصفاً لما حدث، نحن نعرفه ونعانيه الآن، بعد مرور قرن من الزمان بالتمام والكمال، يقول هو: »نشأ مذهب مشوه مختلط ليس بالقديم ولا بالحديث، وليس بالنافع في تكوين الملكات الأدبية ولا بالمفيد في تعليم مناهج البحث، وهو مذهب العامة من أساتذة الأدب في مدارس مصر"، ويصف بالتفصيل ما يحدث من هؤلاء الأساتذة.. »لا يتعمقون في درس الآداب علي المذهب القديم فيصقلون ذوق الطالب ويقوون ميله إلي النقد اللغوي« وإذا كانوا لا يتعمقون في القديم فهم كذلك بالنسبة للجديد، لا يدرسون ولا يقومون بتحليل الآداب والبحث في مصادرها الأولي وما خضعت له من مؤثرات بالنسبة للأفراد، الذين وضعوها ولا التعبير الاجتماعي والاقتصادي الذي تحمله، هم فقط »يسمون طائفة من الشعراء والكتاب، ويؤرخون مولدهم وموتهم ويلقنون الطلاب شيئاً من منظومهم ومنثورهم، لا يتجاوزون ذلك ولا يزيدون عليه« والأهم أو الأخطر أنهم »يسمون هذا النحو الممسوخ من الدرس تاريخ الآداب«. محصلة ذلك، الذي يحدث من »عوام« أساتذة الآداب في مصر واضح أمامه، نتيجة الدرس الأدبي »غير قيمة ولا مجدية« فالطلاب لا يجدون أمامهم من الأساتذة ولا يجدون في المدرس ولا في الكتب المتاحة أمامهم »ما يحبب إليهم أدبهم ويرغبهم فيه« ومن ثم يذهب الطلاب ولهم العذر في ذلك إلي الكتب لقراءة »آداب الفرنج ويهيمون بها« آنذاك كان نظام التعليم في مصر من أيام »دنلوب« يعلي من تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس، وكان تعليم اللغة الفرنسية منتشراً، وكذا كان من السهل علي الطلاب أن يقرأوا الأدب الأجنبي، الإنجليزي والفرنسي، وكان طريق الأدب العربي أمامهم مغلقاً أو غير ميسر، ويري طه حسين أن سبب هذا الإقبال علي »آداب الأفرنج« نشأت عندنا »الأساليب الحديثة في الشعر والنثر« وهذه الأساليب »تأذي بها رجال المدرسة القديمة في الآداب« لكنهم لا يستطيعون لها دفعاً. هل من الصحيح أن الأساليب الحديثة في الشعر والنثر، كان سببها فقط عدم التعمق في درس وفهم القديم وعدم الاستعداد للمناهج الحديثة أم أن هناك ظروفاً اجتماعية واقتصادية تضاف إلي ما ذكره طه حسين..؟ هو نفسه تناول تلك القضية وأفاض فيها- بعد ذلك- في مقالات أخري له. الصحيح في أيامنا نحن- سنة 2014- أننا نجد سنوياً، في نتيجة الثانوية العامة، عشرات بل مئات من الطلاب يحصلون علي الدرجات النهائية في اللغة الأجنبية التي يدرسونها، الإنجليزية والفرنسية والألمانية، بينما يندر أن نجد طالباً يحصل علي الدرجة النهائية في اللغة العربية، ولا ننكر أن اللغة العربية صعبة التعليم، لكنها ليست أكثر صعوبة من الألمانية، فضلاً عن أن اللغات الأخري ليست سهلة، والسبب كما يبدو لكثير من المتابعين يعود إلي طرق التعلم، فمازالت اللغة العربية يتم تدريسها بأساليب وطرق بالية، تنفر الطلاب منها، وتجعل بعضهم رغم أنها لغتنا الوطنية القومية، يؤثرون عليها اللغة الأجنبية، يرتبط بذلك أن مجموعات من شبابنا- سنة 2014- يقبلون علي القراءة باللغات الأجنبية، دون العربية، ويتأثرون في الكتابة بأساليب الكتّاب الأجانب. كان طه حسين دقيقاً في وصفه، حين رأي أن الطلاب المصريين يذهبون إلي الآداب الأجنبية، ليس ذلك- فقط- بل »يهيمون« بها، وهذا هو نفسه ما نلمسه، نحن اليوم، بعد مرور قرن علي رصد د. طه لتلك الظاهرة، وفي زمنه كانت هناك ظروف تفرض علي المصريين ذلك، أقصد علي طلابهم كانت هيمنة الاحتلال البريطاني علي التعليم قائمة، وكانت فرنسا تحاول النفاذ عبر الثقافة واللغة الفرنسية، ولم يكن التعليم انتشر في مصر، ولكن اليوم لا سبب لدينا، سوي العجز المريع عن تطوير أساليب تعلم ودراسة اللغة العربية وآدابها، مازلنا نقبع حيث كان القدماء. وفي زمن طه حسين كان المقصود بالآداب الأجنبية، الأوربية فقط، أي المكتوبة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، أما اليوم فقد اتسع ذلك المفهوم ليشمل الآداب الأجنبية، المكتوبة باليابانية والصينية والاسبانية وغيرها، ويجب ألا ننزعج من تعلم الشبان لتلك اللغات والإقبال علي آدابها، لكن المزعج أننا لا نجد إقبالاً مشابهاً علي تعلم لغتنا الوطنية، ولا رغبة مشابهة في دراسة آدابها والتعمق فيها، بل نجد تراجعاً وازدراءً عنها، بعد أن نفرت المدارس ومناهج التعليم والمعلمين منها. علي العموم، الجامعة المصرية، كانت حين تأسست أقرب إلي تحقيق الهدف المنشود وهو دراسة الأدب وفق المناهج الحديثة، حيث كان هناك تمييز واضح في الدرس بين فهم ودراسة الآداب ذاتها، ودراسة تاريخها، أي تاريخ تلك الآداب، كانت الجامعة تميز علي نحو قاطع في التخصص، وجعلت هذا غير ذاك. وكان لكل من الاختصاصين أستاذ يعرف تخصصه جيداً، والواضح أن طه حسين كان حفياً بدراسة تاريخ الآداب أكثر، ذلك أنه يعلم الطالب المناهج الحديثة، وتلك فائدة علمية وأكاديمية، يضاف إلي ذلك أنه يجعلنا نتعرف علي ما يطلق عليه »روح الأمة« في مراحلها وأطوارها المختلفة، من القوة إلي الضعف أو العكس. وبسبب الظروف التي مرت بها الجامعة مع قيام الحرب العالمية الأولي، جمعت بين التخصصين أو العلمين ليقوم أستاذ واحد بتدريسهما، باختصار جري الدمج بين درس الأدب وتاريخ الأدب، وهكذا يتم شرح دقائق النص الأدبي، بلاغة وجمالاً مع شرح تاريخ الأدب، وهكذا تراجعت الجامعة من مكانها وعن الوعد الذي قدمته في مجال الدرس والتفكير، وارتدت إلي مرحلة قديمة، لكنها ليست مثل الأزهر، فللأزهر تقاليده واختصاصه الذي يعرفه القائمون عليه، الجامعة ارتدت عن حداثتها إلي منطقة وسط، بتعبيره هو »حيث وقفت مدرسة القضاء ومدرسة دار العلوم من هذا النحو في البحث عن حياة الآداب«، قبل ظهور الجامعة المصرية كان علي مبارك أسس مدرسة »دار العلوم« لتقدم معلمين جدد ودارسين للأدب وللتراث علي غير طريقة الأزهر، وكذلك تأسست مدرسة »القضاء الشرعي« التي درس فيها أحمد أمين، والتي تحولت فيما بعد إلي مدرسة أو كلية الحقوق، هذه المنطقة الوسطي في الدرس لم يسترح لها طه حسين ولا رحب بها، هو كان راضياً ومقتنعاً بأن للمنهج القديم، منهج ومدرسة الأزهر دوراً مهماً وكذلك للجامعة وللمنهج الحديث دوراً ولدينا احتياج شديد له، أما ذلك الذي ليس بالقديم تماماً ولا هو بالجديد، فهو عنده »ما لسنا في حاجة إليه«. ولم يحمل طه حسين علي الجامعة، فقد كان يعرف الأعذار والأسباب التي دفعتها إلي ذلك، وهو واثق أن جامعته ستعود سيرتها الأولي في البحث "متي وجدت المال" واستطاعت أن تدعو الأساتذة المستشرقين أو أن يعود إليها طلابها في أوربا. »هنا كان يعلق الآمال علي المستقبل.. الطلاب الذين أوفدتهم الجامعة المصرية إلي الجامعات الأوربية في بعثات تعليمية، وكان هو أحد هؤلاء المبعوثين.