ليس هناك ما يدعونا إلى إنكار أن موقفنا ازداد صعوبة هذه الأيام بسبب الألاعيب التى تقوم بها أمريكا وحلفاؤها، سواءً من الغرب أو من الإقليم أو من بعض من ينتمون إلى جامعة الدول العربية، أو من العصابات المحلية أو المُجَمَّعة من المتطرفين عبر العالم. ولكن هذه الصعوبة لا تعنى أن نستسلم، بل إن لدينا أوراقاً جيدة تساعد على المضى قدماً فيما اختاره الشعب لنفسه. لقد انكشفت الخطة الأمريكية ولم يعد يجادل فيها إلا غافل أو راغب فى استنزاف الطاقة، فهى تسعى لفرض كتالوج واحد على منطقتنا، يحقق مصالحها، التى تتماهى فيها مصلحة إسرائيل، متحدية إرادة الشعوب التى خرجت فى ثورات دفعت فيها أرواحاً ودماءً وناضلت حتى حددت اختياراتها فى انتخابات واستفتاءات لم يُطعَن فيها! أصرّت أمريكا فى أحد البنود على أن يعود الإخوان إلى الحكم فى مصر، ثم، وبعد أن تبين لها استحالة إلغاء ما أنجزته وتُصرّ على تحقيقه عشرات الملايين من الجماهير، تواضعت إلى أن يكون لهم وجود شرعى فى المشهد السياسى الرسمي! حتى بعد أن لفظهم الشعب وألغى دستورهم وكتب دستوراً جديداً يُجرّم تجربتهم التى استولوا فيها على الحكم ودفعَ بهم دفعاً للمحاكمة! وفى ليبيا، تبذل كل جهودها من أجل تشكيل ما تسميه حكومة وحدة وطنية، أيضاً، على أن تضم الإخوان الذين أسقطهم الليبيون فى الانتخابات! لاحظ أن تونس بمنأى عن الهجوم الأمريكي، حيث كان للإخوان هناك السيطرة بعد الثورة حتى أسقطهم الشعب، إلا أن النخب السياسية أشركتهم فى الائتلاف الحاكم! ومن باب الضغط على النظامين، فى مصر وليبيا، لجأت أمريكا إلى ورقة الإضعاف بمنع السلاح، فماطلت فى تسليم طائرات الأباتشى المتفق عليها مع مصر، والتى هى سلاح أساسى فى مواجهة الإرهاب فى سيناء، ثم بدأت فى بعض الملاينة عندما ظهر لها نجاح النظام الحاكم فى مصر فى كسر طوق العزلة وشراء السلاح من مصادر أخرى مثل روسيا وفرنسا. ولكنها نجحت حتى الآن فى فرض حظر السلاح على الحكومة الشرعية فى ليبيا، مما جعل القيادة الليبية مُكَبَّلة اليدين فى مهمة إنقاذ البلاد من الفوضى وخاصة فى مواجهة داعش الذى يجرى تمويله وتهريب السلاح المتطور له من أعوان أمريكا الصغار فى المنطقة! مما ترتب عليه اختلال التوازن لصالح داعش، وبات فى إمكانه إنزال الضرر الجسيم بالسكان المدنيين، بل بقوات الجيش الليبي، ثم أن يكون شوكة فى خاصرة مصر! المطلوب عملياً الاجتهاد فى كيفية التعامل مع إزدواجية المعايير فى السياسة الأمريكية، وليس التباكى على ضياع المبادئ! لأن البعض يبدد الوقت والطاقة فى إثبات الازدواجية، وكأن تاريخ السياسة كان منزهاً منها! ويقولون إن أمريكا تحاول فرض الحل العسكرى فى سوريا، وأما فى ليبيا فإنها تقول إن السلاح سيُزيد الأمر اشتعالاً! أصل الحكاية أن أمريكا وحلفاءها أدركوا، من تجربتهم التاريخية، أنه ما كان لبلادهم أن تتطور وتتقدم إلا بعد أن نجحوا فى فصل الدين عن الدولة، وإبعاد رجال الدين تماماً عن الحكم، وأن هذا هو الطريق الأمثل لضمان حقوق المتدينين بعيداً عن سطوة رجال الدين، لذلك قرروا وخططوا، وحتى يضمنوا أن نظل على تخلفنا، بأن يبقى دعاة الحكم الدينى لدينا فى صلب العملية السياسية بأمل أن يصلوا إلى الحكم، ليسود الاستبداد، وتعم الشعوذة، وتجلس المرأة، نصف طاقة المجتمع، فى البيت، وينحسر العلم والمنهج العلمي، وتتدهور الفنون والآداب، وتوأد فى مهدها أى إمكانية للتحديث، وحتى تُستَنزَف طاقتُنا فى معارك العصور الوسطي! وإذا تمكن الشعب من الإطاحة بحكمهم، عملت أمريكا وحلفاؤها على إعادتهم بكل ما لدى الغرب من قوة ومال ونفوذ وتحايل وتآمر! لتظل الهوة فى صالح بلادهم، وحتى تبقى لإسرائيل الهيمنة على المنطقة بقليل من عون الخارج، وربما لا تحتاج إلى الخارج فى المستقبل إذا ظلت الفوارق فى اتساع! من هنا تأتى أهمية المهمة التى يقوم بها نظاما الحكم فى قطروتركيا فى خدمة المصالح الأمريكية، وهو ما يفسر الجسارة التى تبدو فى تصرفات حكام دولة صغيرة مثل قطر، مع الاحترام لشعبها الشقيق، بعد أن ضمنوا الحماية الأمريكية. وهو نفس السبب الذى يجعل تركيا، أيضاً تحت الحماية الأمريكية، فى أمان من مساءلة مجلس الأمن لها بعد انتهاكها نصوص قراره الصريح رقم 2170 فى أغسطس 2014، على الأقل فى البنود التى تمنع على الدول أن تشترى من داعش البترول، أو أن تجعل من بلدها معبراً أو مأوى لمقاتلى داعش! هذه الجبهة العريضة من أمريكا وحلفائها تُقوِّى قلب الإخوان وداعش وشركائهما، كما أنها تزيد من صعوبة الموقف الذى أصبحنا فيها. ولكن لا ينبغى التراجع عن اختيارات الشعب فى عزل القوى الظلامية خاصة أنها توفر بنفسها الدليل بعد الدليل يومياً على وجوب التصدى لها وتصفيتها، بعد مشاهدة ما عجز الخيال الجامح عن توقع أن يتكرر فى القرن الواحد والعشرين، من تفجيرات فى الطريق العام وسبى وسوق نخاسة وفرض الجزية إلى الحرق والذبح..إلخ أول ما يمكن استخلاصه من بديهيات هو أنه لا مصلحة لنا فى معاداة أمريكا، وهو ما ينبغى إظهاره. والبديهة الثانية، أن هذا الصراع الذى تفرضه أمريكا علينا يستهدف أن نُذعِن لسياسات ضد مصلحتنا. والبديهة الثالثة، أن يكون الصراع مع أمريكا بوسائل أخرى غير السلاح، مثل المناورة المصرية الناجحة فى الحصول على سلاح من دول أخري. والبديهة الرابعة، هى أن دولة بمفردها لا يمكنها أن تواجه حلفاً بقيادة أمريكا، بما يلزم أن تنضم إلى حلف آخر يتكون أعضاؤه من المضارين من سياسات أمريكا عبر العالم، وقد تطوعت السياسة الأمريكية ووفرت عدداً كبيراً من الدول الطامحة فى التخلص من هذه الهيمنة. والبديهة الخامسة، أن هذا صراع يعتمد على طول النفس. وأما البديهة التى تُصرّ الإدارة الأمريكية على تجاهلها فهى أن من مصلحتها أن تكون علاقتها مع مصر طيبة، وهو ما ينبغى الحرص على تذكيرها به، ومدّ خيط الحوار مع الأصوات الأمريكية التى تنادى بذلك! لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب