تحتفل شعوب عديدة هذا المساء بليلة عيد ميلاد السيد المسيح.. لقد مضى عشرون قرنا من الزمن على هذا الحدث الإلهى العجيب الذى غير حياة الملايين من البشر ومازال طفل بيت لحم.. كلمة اللَّه الذاتية الناطقة التى اتخذت الطبيعة البشرية يجلب ملايين النفوس إليه. أتى المسيح ليقيم جسرا بين السماء والأرض.. جمع فى ذاته الأيدى والزمنى المطلق والمحدود. وأكد أن تجسده لا يجرح وحدانية اللَّه.. فلا تعدد فى الذات الإلهى.. فنحن نؤمن بإله واحد ولا شرك بالقدوس الأبدى.. هذا السر الإلهى العظيم أكد لنا محبة اللَّه للانسان خليفته.. ليعيده إلى حال النعمة والبرارة وهذه رسالة الحياة التى يحملها كل انسان أن يحيا فى الايمان والرجاء والمحبة لتكون الحياة أفضل. وأعلن المجمع أن المسيح قدم للبشرية فى الإنجيل تعاليمه السامية التى تقدم الرجاء الحقيقى لقيام أسرة مؤمنة .. وأوصى المجمع بأن تتصل وتتوسع مراكز إعداد الشباب للزواج وبناء أسرة وكشف عن روعة الزواج المسيحى فى ثباته وديمومته لصالح البشرية. أود أن أتأمل معكم فى نقاط ثلاث: أولا: عائلة بيت لحم التى يوحَّدها الطفل الإلهي استطاع الكاتب الملهم فى سفر التكوين أن يقدم لنا بإلهام من الروح القدس نموذج العائلة التى تعيش فى حضرة اللَّه الخالق.. فنموذج عائلة آدم وحواء كرمز لكل عائلات البشر يبرز لنا بوضوح خطة اللَّه وهدفه وقت الخلق.. فاللَّه كان يريد أن يظل حاضرا وسط العائلة البشرية.. لكنها رفضت بخطيئتها هذا الحضور.. ولم نعد نسمع «صوت الرب الإله ماشيا فى الجنة عند نسيم النهار».. وتفككت العائلة وقتل الأخ أخاه وتسلط الموت على كل شيء.. لكن اللَّه بتدبيره الخلاصى ومحبته لخليفته.. يلهم بروحه القدوس مرة أخرى كتاب الأناجيل حتى يبرزوا لنا من جديد نموذج عائلة بيت لحم إن صوت الكتاب الملهمين لا ينفك صارخا يدعو الكنيسة بكل مؤمنيها أن تصغى من جديد لصوت اللَّه حتى تستطيع أن تبرز أيضا نموذج عائلة بيت لحم. ثانيا: عائلة بيت لحم هى فى العالم وليست من العالم تبدو عائلة بيت لحم منبوذة وعلى أطراف العالم أو على هامش العالم.. فكما يقول الكتاب «لم يكن لهما موضع فى المنزل» (لو 2:7) هى فى العالم لكنها ليست من العالم.. فلها رسالة مختلفة عمّا يطلبه العالم ورئيس هذا العالم.. فهى عائلة يحكمها روح التخلى الكامل روح التضحية من أجل ما يملأ قلبها من حب.. فيوسف النجار تخلى عن حقه فى شريعة موسى بتطليق امرأته التى وجدت حبلى قبل أن يجتمعا معا.. والعذراء مريم قبلت رسالة لا تطيق حملها صبية مثلها. إنها عائلة قانونها الحب وليس الكرامة فقط .. قانونها التضحية وليس المطالبة بالحقوق دائما.. كم من عائلات وحتى جماعات كنسية انقسمت على ذاتها حين أصبحت لغتها هى لغة المطالبة بالحقوق فقط.. وكأن روح التضحية والتخلى من أجل ما فى قلوبنا من حب لم يعد له مكان فى حياتنا.. فقيم العالم اليوم تعلى قط نبرة الحقوق والكرامة الشخصية على الحب والتضحية إذا أصبحت عائلة بيت لحم ليست من العالم مع أنها تعيش فيه. إن قيم العائلة المسيحية تواجه فى عصرنا تحديات خطيرة تحاول أن تخترق السر الأعظم فى المجتمع.. سر الزواج المقدس والارتباط بين الرجل والمرأة لصالح الأبناء والأجيال وخير الأمم والشعوب تشعر الكنيسة بخطر تيارات لا تقيم وزنا للشريعة العظمى شريعة الزواج وانتشر فى مناطق عديدة ما يسمى بالزواج الحر دون التزام دينى.. ونسينا أن مؤسس الأسرة البشرية هو الخالق القدوس.. نشأ عبث الفوضى الأخلاقية وأضحى الانفصال والطلاق تيارا يتسع يوما فيوما وكانت وستظل دوما الضحية هم الأطفال والأجيال التى تنشأ بعيدا عن حضن الأسرة ودفء حب الأب والأم وحدث ما نراه ونلمسه من انهيار كثير من القيم السامية التى قامت عليها أسس الحضارات والتقدم وأهمها قيمة «العائلة». ثالثا: عائلة بيت لحم التى تحفظ كل الأمور فى قلبها وتتأمل بها يخبرنا الوحى الإلهى على لسان كاتب الإنجيل أن العذراء كانت تحفظ كل الأمور العجيبة صعبة الفهم التى مرت بالعائلة فى قلبها وتتأمل.. فمن ناحية استطاعت أن تصغى وتسمع وتحفظ وتتأمل .. ومن ناحية اخرى استطاعت أن تحفظ أعمال اللَّه العجيبة وتدخلاته القوية المخلصة فى حياتها وفى ظروفها وأوقات آلامها واستطاعت أن تجعل من كل هذا مادة للتأمل والتفكر حتى تتحصل على قوة مواصلة الحياة. إننا نصلى هذا المساء متحدين مع قداسة البابا فرنسيس رئيس كنيستنا الكاثوليكية البطاركة والأساقفة والكهنة والشعوب.. نصلى من أجل رئيس الجمهورية ليعضده الرب لكى نثبت للعالم كله أن مصر دولة حرة حضارية تبنى المستقبل لتظل منارة الشعوب ونصلى أن يتقبل الرب شهادتنا فى موكب المجد وأن ينعم بالحكمة على كل من يحمل المسئولية. لمزيد من مقالات الانبا ابراهيم اسحق