لعله من الخطيئة بحق الذات والقضية الفلسطينية، فى هذه اللحظات العاطفية، أن نتجاهل حقيقة أن الأمور دائما بخواتيمها، أو أن تستبد بنا العاطفة ويغيب العقل فى ذروة الانفجارات وعند الانعطافات الكبرى ولحظات التحول، لاسيما حين يتربص بالقضية الفلسطينية عدو لديه تصوراته واستراتيجياته، ويخوض صراعاته على كل الجبهات سواء فى الضفة أو غزة. نقول ذلك لأن ما تراكم لدى الأجهزة المصرية المعنية من معلومات وتقديرات بشأن مآلات العدوان الاسرائيلى الحالى على غزة. جدير بأن يجعل من مصر الطرف الأكثر حرصا ( حتى من بعض الفلسطينيين أنفسهم) فى المرحلة الراهنة على العودة إلى التهدئة من جديد. بالطبع ليس حبا فى حماس، أو رغبة فى بقائها كطرف يتحكم بالقطاع. ولكن وفق قاعدة أخف الضررين. صحيح أن نظام حماس فى غزة كان قد انتقل فى علاقته مع النظام المصرى من خانة «الكيان غير الحليف» إلى «الكيان شبه المعادي». لكن هذا لا ينفى أن القاهرة لا تزال تفرق تماما - بين إضعاف حماس من خلال صيغة معينة تتخذها عملية المصالحة وبين العملية العسكرية التى تباشرها اسرائيل الآن، التى قد لا تفضى فقط إلى ردع حماس، وإنما إلى التأسيس منذ الآن لسيناريو » تدعيش غزة »حتى ولو لم يكن هذا ما تسعى اسرائيل إلى تحقيقه بالفعل! والمقصود هنا ب »تدعيش غزة« ألا يكون لها رأس واحدة تحكم،أو عنوان استراتيجى ثابت يمكن ردعه والتفاوض معه، نتيجة سقوط القطاع (عما قريب) بين أيدى جماعات مسلحة متعددة تتصارع فيما بينها على النفوذ والسلطة. بعبارة أخري، ثمة مخاوف من أن تدحرج العملية العسكرية الراهنة قد يتسبب فى ألا يتوقف تأثيرها عند حدود ردع حماس على النحو الذى سبق ذكره، وإنما تتجاوز ذلك إلى حيث الإضعاف الشديد الذى يمس بقدرة الحركة على الاستمرار فى السيطرة على المجال العام فى غزة،على النحو الذى يغرى الجماعات المسلحة الأصغر فى القطاع بمناطحتها والصراع معها على السلطة والنفوذ. الذين يستبعدون - وربما يسخرون من - ذلك التقدير يقيسون فيما يبدو على الاستراتيجيات التى طبقتها إسرائيل خلال عملية «الرصاص المصبوب- 2008/2009» وكذلك خلال عملية «ركيزة الدفاع- 2012». ويعولون على ما يعتبرونه ذكاء إسرائيليا سيحول حتما دون مفاقمة الأوضاع إلى هذا الحد. ومن ثم فإسرائيل بحسب رأيهم- ستتجه لا محالة نحو إعادة انتاج ما سبق، وستفضل الانحياز لنظرية العنوان الاستراتيجى الثابت فى غزة الذى يمكن ردعه والتفاوض معه، حتى ولو كانت حماس. حماس أيام «الرصاص المصبوب» و «عمود السحاب» كانت فى موقع الطرف الحاكم والمسئول عن غزة، ومن ثم كانت اعتبارات المسئولية والحفاظ على السلطة بمثابة محددات مركزية لخيارات الحركة العسكرية والعملياتية، ولهذا كان هناك دائما استعداد من قبل الحركة للقبول بالتسويات وأنصاف الحلول. أما الآن فالوضع أصبح مختلفا بعد اتفاق المصالحة الذى وقعته حماس مع محمود عباس فى ابريل الماضي، أيضا. حماس الآن تركت الحكومة وإن كانت لا تزال تتحكم .. إنه باختصار محاولة من قبل حماس لاقتباس نهج «حزب الله» من لبنان وزرعه فى فلسطين. أى «نقاتل دون أن نكون المسئولين عن السلطة أو الدولة » والأهم من هذا وذلك، أن القول بأن خيارات إسرائيل فى المواجهة الراهنة (أو حتى القادمة) تتمثل فقط فى إعادة انتاج ما سبق، معناه أننا نسقط من حساباتنا الأثر الاستراتيجى الذى يمكن أن يُحدثه تطور القدرات الصاروخية للفصائل الفلسطينية، فى إعادة صياغة وبلورة الخيارات الاسرائيلية تجاه غزة. من المعلوم أن إسرائيل تقدر وبشكل صحيح أن الضفة الغربية من السهل اختراقها بسبب الكثافة السكانية المنخفضة نسبيا، لكن من الصعب احتواؤوها من الخارج بسبب حجمها وطول الخط الأخضر(أكثر من 300 كم). غزة على النقيض، من السهل احتواؤوها ولكن من الصعب اختراقها بسبب صغر حجمها وكثافتها السكانية العالية. تعبر التحركات الإسرائيلية بوعى كبير عن هذه الاختلافات. لذلك فى عملية «الدرع الواقي» فى مارس عام 2002 حين سعى جيش الاحتلال إلى تحقيق انتصار حاسم فى أثناء الانتفاضة الثانية، دخلت إسرائيل الضفة واستولت مؤقتا على المدن الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، واقتحمت الخنادق على عناصر المقاومة سواء بهدف التصفية الجسدية أو الاعتقال. لكن فى غزة اتخذت إسرائيل مسارا مختلفا، لأنه من الصعب اختراقها، لكن يُفترض أنه من السهل احتواؤوها من الخارج. لهذا قررت إسرائيل أن تنسحب منها بشكل أحادى الجانب عام 2005. وحتى قبل الشروع فى عملية «الرصاص المصبوب» عام 2008 كانت خبرة عملية «الدرع الواقي» فى الضفة لا تزال حاضرة، لكن حكومة نيتانياهو أحجمت عن تنفيذ هذه الاستراتيجية وقامت بالأحرى بعملية برية محدودة وضعت بهدف إضعاف البنية التحتية لحماس، لكن دون المساس بقدرتها على الإمساك بالسلطة فى غزة. والسبب الرئيسى فى رفض نيتانياهو لعملية مماثلة للدرع الواقى أن إسرائيل تريد تكريس الانقسام، مع الإبقاء على حماس كعنوان استراتيجى فى القطاع يمكن ردعه والتفاهم معه. الآن قوض التطور الصاروخى للفصائل فرضية أن غزة يمكن احتواؤوها من الخارج. وفى المقابل، فإن تعزيز الوضع الراهن معناه أن المخاطر تتزايد بمرور الوقت نتيجة التطور المضطرد فى قدرات الفصائل العسكرية، والصاروخية منها بشكل خاص. كما أن تزايد «المخاطر» على هذا النحو لم يبق لنظرية العنوان الاستراتيجى الثابت أية أهمية تذكر. وعليه فمن الجائز جدا أن تتبنى إسرائيل نفس الاستراتيجية التى طبقتها فى الضفة خلال عملية »الدرع الواقي« فى مارس 2002. هذه التقديرات، مع اعتبارات أخري، كانت الدافع وراء محاولات حثيثة بذلتها القاهرة منذ ما قبل شن العدوان لنزع فتيل الأزمة، ثم كررتها بمبادرة وقف إطلاق النار، لكن يبدو أن البعض لا يزال مصرا على عدم الاستفادة من دروس الماضي. لمزيد من مقالات محمد جمعه