يستطيع أى مراقب لأداء الدبلوماسية المصرية خلال الأشهر التى تلت ثورة الثلاثين من يونيو أن يرى بوضوح مدى التطور الذى طرأ على أداء وزارة الخارجية. فالمتابع للتحرك الدبلوماسى يخلص على الفور إلى أن هذا التحرك أصبح له سمات محددة، أهمها وجود نظرة شاملة وعميقة لكل التحديات الخارجية وللوضع الإقليمى والدولى العام، وحركة مستمرة فى كل الاتجاهات سواء على المستوى الثنائى أو المتعدد الأطراف للتعامل مع التحديات واقتناص الفرص كلما توافرت. ويعد أكثر ما يميز هذا التحرك أنه يتم وفق فكر منهجى وعلمى بعيداً عن العشوائية وبهدف واضح هو تعظيم المصلحة الوطنية للبلاد وضمان استقلالية قرارها من خلال إعادة التوازن للسياسة الخارجية المصرية دون تبعية لأحد. عدة أسباب تدفع إلى هذه القناعة، منها أن وزير الخارجية نبيل فهمى أعلن بوضوح فى أول مؤتمر صحفى عقده فور تكليفه بمنصب وزير الخارجية فى يوليو الماضى أنه لن يتحرك فى الفراغ، وأن التحرك الخارجى لمصر سيستند إلى ثلاثة محاور رئيسية هى أولاً: الدفاع عن ثورتى 25 يناير و30 يونيو وحشد الدعم السياسى والاقتصادى لهما ، ثانياً: تعبئة الجهود إقليمياً ودولياً لمحاربة الإرهاب وإعادة مركزيه الدور الإقليمى والدولى لمصر من خلال استعادة مكانتها عربياً وإفريقيا وإعادة التوازن من خلال الانفتاح على كل القوى العالمية البارزة، ثالثاً: إعداد تصور استراتيجى لمستقبل السياسة الخارجية لمصر ومستقبل المنطقة والعالم حتى عام 2030. وأثبتت الأشهر الماضية أن سياسة مصر الخارجية سعت للالتزام بهذه المحاور، فبالنسبة للمحور الأول، ومهما يكن تقييمنا لرد الفعل الدولى تجاه ثورة يونيو والذى يبدو معانداً للإرادة الشعبية فى بعض الحالات، إلا أن الدبلوماسية المصرية نجحت بالتنسيق مع أجهزة الدولة الأخرى فى التصدى لمحاولات عدد من الدول التى سعت لتدويل الوضع فى مصر فى مختلف المحافل الدولية، وذلك من خلال أداء رزين ينطلق من التقاليد الدبلوماسية العريقة التى تسير وفق منهج علمى وثوابت راسخة، وهو أداء يليق ببلد عريق كمصر. وباتت وزارة الخارجية الآن واضحة فى التعبير عن توجهات صريحة ترسخ أن مصر دولة عربية الهوية إفريقية الجذور، عازمة على استعادة الريادة الفكرية والحضارية - وهو المبدأ الذى حرصت مصر على إبرازه فى مشاركتها فى كل المحافل العربية والإفريقية والدولية - وعلى إعادة التوازن الذى افتقدناه فى سياستنا الخارجية منذ عقود طويلة وذلك من خلال الانفتاح على قوى عالمية كبيرة كروسيا الاتحادية فى إطار صيغة 2+2 غير المسبوقة فى إطار العلاقات بين الجانبين فى مختلف المجالات. كما تحركت مصر - وسينشط هذا التحرك شرقاً نحو آسيا لاسيما - بإتجاه الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان لإنعاش علاقات مصر الخارجية مع القوى العالمية الصاعدة لدعم الاقتصاد وتنويع البدائل والخيارات وهى العلاقات التى كانت قد أُهِملت فى الفترة الماضية.على الصعيد العربي، سعت الدبلوماسية المصرية إلى إيلاء مزيد من الاهتمام للقضايا العربية. أما على الصعيد الإفريقي، كان باديا بعد ثورة 30 يونيو مباشرة مدى الاهتمام الذى توليه مصر لتعزيز علاقاتها مع كل الدول الإفريقية، فعلى الرغم من القرار الذى صدر بتعليق مشاركة مصر فى أنشطة الاتحاد الأفريقى بعد ثورة 30 يونيو فقد حرصت مصر على المشاركة بفاعلية فى كل المحافل الإفريقية. وأوروبياً، هناك إصرار على استمرار التواصل مع الاتحاد الأوروبى خلال الشهور التسعة الماضية، سواءً من خلال زيارات وزير الخارجية المتعددة إلى العديد من الدول الأوروبية، أو من خلال استقباله لوفود الاتحاد الأوروبى والدول الأوروبية فى زياراتهم المتكررة ، وهو ما يفسر التغير الإيجابى الملحوظ على الموقف الأوروبى تجاه مجريات الأمور فى مصر خلال الآونة الأخيرة، والذى تكلل بتوقيع مذكرتى تفاهم بين الجانب الأوروبى وكل من وزارة لخارجية واللجنة العليا للانتخابات بما يعكس دعماً أوروبياً كاملاً لخارطة الطريق. أما فيما يتعلق بسد النهضة، فقد قامت وزارة الخارجية، بجهود أدت إلى تفهم العديد من الدول ومن بينها بعض دول حوض النيل لمشروعية الشواغل المصرية، وتيقن العديد من الدول المانحة كالصين وايطاليا وروسيا واليابان وكوريا الجنوبية وهيئات التمويل الدولية كالبنك الدولى أنه مشروع خلافى يجب التوصل إلى اتفاق حياله بين إثيوبيا والسودان ومصر، وهى نتائج ما كانت لتتم لولا هذه الجهود والضغط الدبلوماسى المصري.أما على صعيد مكافحة الإرهاب فقد سعت وزارة الخارجية إلى جعل قضية الإرهاب على رأس قائمة الأولويات الإقليمية والدولية، فبعدما طرح وزير الخارجية مبادرة من 6 نقاط أمام الاجتماع الوزارى للجامعة العربية فى مارس الماضى تتضمن المطالبة بعدم إيواء الإرهابيين وعدم تقديم الدعم السياسى والمالى للتنظيمات الإرهابية تم عقد اجتماع فورى لوزراء الداخلية والعدل العرب لتنفيذ الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، فضلاً عن تطوير استراتيجية شاملة لمواجهة الأفكار التكفيرية. كما تعطى زيارة رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب إلى كل من تشاد وتنزانيا رسالة واضحة مفادها أن مصر لم ولن تتخلى عن جذورها الإفريقية. وتأتى الزيارة الحالية لوزير الخارجية إلى واشنطن، وهى الأولى من نوعها منذ ثورة 30 يونيو، للتأكيد على أهمية العلاقات للجانبين، ولإبراز استقلالية مصر التامة فى إدارتها لعلاقاتها مع واشنطن والتى تحكمها الندية بعيداً عن التهديدات والإملاءات الأمريكية, وبما أن ال 48 ساعة الأخيرة شهدت اتصالات عديدة بين وزير الخارجية المصرى ونظيره الأمريكى كيرى وقبل توجه فهمى إلى واشنطن والتى ركزت على تناول العلاقات الثنائية فى مختلف المجالات، ولا شك أن ذلك يؤشر بتحسن العلاقات الثنائية بناء على مبدأ الاحترام المتبادل الذى باتت تتسم به العلاقات بين القاهرةوواشنطن. وبدأت هذه الجهود تؤتى ثمارها حيث وضعت دولة عربية كبيرة ومؤثرة كالسعودية جماعة الإخوان ضمن المنظمات الإرهابية وقامت الكويت بتسليم مطلوبين، كما طلب ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا بفتح تحقيق بشأن وجود قيادات الإخوان على الأراضى البريطانية وعلاقتهم بالأنشطة الإرهابية، وعكست تصريحات وزير خارجية كندا خلال زيارته مصر قبل أيام فهما كندياً كاملاً للموقف المصرى من الإرهاب، كما جاء القرار الأمريكى بإعلان جماعة أنصار بيت المقدس جماعة إرهابية ليمثل خطوة جيدة. وقد جاء ذلك على أسس جديدة تضمن علاقات من الندية والتكافؤ، حيث جاء التحرك فى إطار السعى نحو إبراز استقلالية القرار والسياسة الخارجية المصرية، فعلى صعيد العلاقات مع الولاياتالمتحدة.يمكن القول إن هذا الأداء يمثل نموذجاً لمقولة »التفكير خارج الصندوق« أى العمل بأسلوب غير تقليدى من خلال إقامة حوار ومشاركة حقيقية بين وزارة الخارجية والمجتمع المدنى وقادة الفكر والرأي. فإلى جانب هذه اللقاءات هناك تسع مجموعات عمل تضم عناصر من كل هذه الفئات إلى جانب دبلوماسيين لبحث قضايا السياسة الخارجية، وسد الفجوة التى طالما كانت قائمة بين العمل الرسمى والمجتمع المدني. وقامت بالفعل أربع لجان برفع تقاريرها وتوصياتها لوزير الخارجية للبدء فى عملية التنفيذ.تطور أداء الدبلوماسية المصرية فى الفترة الأخيرة، ما بين العمل وفق إستراتيجية معلنة ومحددة المعالم وُضعت بمنهج علمي، والتزاما بتنفيذ هذه الإستراتيجية، وما بين التواصل مع المجتمع المدنى بشكل مؤسسى وجاد تجسد بشكل حقيقى مقولة نبيل فهمى «إن الدبلوماسية المصرية بعد 30 يونيو ستعمل على نقل صوت الشعب المصرى للعالم والتعبير عن إرادته».