كثر الحديث في الأيام القليلة الماضية حول نهاية حقوق الإنسان, حيث غدت العبارة شعارا يرفع في الغرب, من معظم الجهات والتيارات, لأغراض مختلفة وبمضامين متباينة, وما يهمنا هنا هو درجة ارتباط هذه العبارة بخطاب النهايات في الفكر الغربي, حيث يبدو أن بعض المفكرين الغربيين وجدوا جاذبية خاصة في مقولة النهاية, بحيث تحولت إلي مقولة مفضلة في كتاباتهم ومؤلفاتهم, فنهاية الميتافيزيقا, نهاية المقدس, نهاية الحداثة, نهاية( أو موت) المؤلف, نهاية الأيديولوجيا, نهاية التاريخ, نهاية حقوق الإنسان.. إلي غير ذلك من النهايات التي يطن وقعها في أذهاننا, تجعل المرء يتساءل عن مدي صحة هذه السيمفونية المتكاملة من النهايات. بمعني آخر, ما سر هذه القيامة الفكرية, خاصة أننا نشعر بأننا بصدد عملية كذب كبيرة, لأننا نشاهد العكس تماما فلا الميتافيزيقا انتهت ولا الحداثة تراجعت, ولا المؤلف اختفي, ولا الأيديولوجيات انقرضت, ولا التاريخ افل, ولا المناضلين من أجل حقوق الإنسان ساكنين. الواقع, أن كل هذه الصيغ البلاغية ما هي سوي مؤشرات إلي وجود تحولات فكرية ومفصلية كبري حدثت في عصرنا هذا, كما توحي بوجود انكسارات وخسوفات كبيرة. فالمتتبع لسير خطاب النهايات يجب ألا ينسي السياق الذي ظهرت فيه هذه المقولات, فنجد أنه منذ الخمسينيات إلي الآن, ومقولة نهاية الأيديولوجيا, تصاغ بصيغ وأشكال متنوعة, فعلي المستوي المعرفي تشير إلي أن العلم والمعرفة العلمية قد انتصرا علي الأيديولوجيا والمعرفة الأيديولوجية, وأن شرط الموضوعية الذي تتطلبه كل معرفة علمية سيقود إلي إبعاد المعرفة الأيديولوجية باعتبارها معرفة متحيزة, لكن لمصطلح نهاية الأيديولوجيا وجها آخر, ذلك أنه مع ازدهار المجتمعات الاستهلاكية ودخول الرأسمالية مرحلة الإنتاج العالمي, تولد وهم يقول إن الحاجات البشرية سيتم إشباعها كافة بفضل التقدم التقني. وبما أن الأيديولوجيات تضم بعدا احتجاجيا علي الواقع بل ومطلبيا, فإنها في الطريق إلي الانقراض, ولم تعد هناك حاجة إليها مع توافر الإشباع والاكتفاء. والحال أن العكس هو الذي حدث, فالأيديولوجيات تتوالد وتتكاثر وتتناسخ فهي تارة علمانية وأخري دينية وهكذا. إذن, فالأيديولوجيات لم تنته ولم تمت بل تتعاقب علي مسرح التاريخ. ومن أكثر المقولات المرتبطة بنهاية الأيديولوجيا, هي مقولة نهاية التاريخ سواء عند هيجل أو عند فوكوياما, الذي ساهم بقوة في إذكاء الجدل في الغرب والعالم, بما يفوق المقولات الأخري. فخلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين سادت في الساحة الأمريكية حالة من الارتباك وفقدان اليقين النظري بشأن مستقبل الولاياتالمتحدةالأمريكية كقوة عظمي مهيمنة, فعلي الرغم من حالة التآكل التي كانت تعيشها الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفيتي فإن ثمة أطروحات قد أخذت تروج وتؤكد تراجع المكانة العالمية للولايات المتحدة وانهيارها الحتمي, وفي هذا الجو الملبد بغيوم التشاؤم دعا أحد الباحثين الاستراتيجيين الأمريكيين, إلي إبداع نظرية جديدة للاستراتيجية الأمريكية مؤسسة علي المفاهيم الفلسفية, ولم يمض أكثر من عامين حتي تبلورت نظرية نهاية التاريخ علي يد فوكوياما, الذي وجد في سقوط الماركسية, وتفكك الاتحاد السوفيتي, وتصدع المنظومة الشرقية الشيوعية, نهاية للتاريخ علي مستوي صراع الأفكار, فلم يعد التاريخ ساحة لصراع الأفكار بعد سقوط الماركسية, وانتصار الديمقراطية الليبرالية الغربية والتي باتت حسب تقديره هي خيار البشرية الأمثل والأخير بلا منازع, ففكرة نهاية التاريخ تعني إن العصور الحديثة لا تستطيع أن تخرج عن الأفق الليبرالي الذي يشكل نهاية( لا انتهاء) للتاريخ. وعلي أي حال فلم ينته التاريخ, ولا انتصرت الديمقراطية الليبرالية في كل مكان, ولا يزال للنظم المستبدة مستقبل زاهر. ولكن هل هذا يعني إضافة نهاية أخري؟ يبدو أن المفكرين الغربيين نظرا لولعهم بمقولة النهاية عثروا علي نهاية أخري, فظهرت أحاديث هذه الايام عن نهاية حقوق الإنسان, ولقد تم اتهام بعض القادة في الغرب, خاصة باراك أوباما, بأنه يتطرق إلي كل المواضيع الرئاسية المعتادة ما عدا موضوع واحد هو حقوق الإنسان مما يشكل حسب الزعم بنهاية حقبة حقوق الإنسان, وحلول حقبة من الواقعية لم يشهد لها مثيل منذ زمن ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر. فهل بالفعل العالم المتقدم يلوذ بالصمت تجاه قضايا حقوق الإنسان؟ لا أعتقد صحة هذا القول, لأنها ببساطة من قضايا الإنسان الكبري, مثل الحق والواجب والفضيلة والوجود والمصير.. الخ, وأعتقد أن القول بنهايتها هو نوع من المقولات الأخري البلاغية, ويعبر عن طبيعة التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الغرب. فقد نقبل القول بتراجعها في بعض البلدان ولا نقبل القول بنهايتها, فالمسألة تخطت بكثير مجرد الرغبات, وإلا كيف نفسر وجودها علي قمة أعمال العالم, وكيف نفسر الكم المتزايد من المتعطشين والمناضلين من أجل كرامة الإنسان. فلم يعد من الجائز لأي مثقف عصري أن يتجاهلها, وبهذا المعني تكون ثقافة حقوق الإنسان في قلب الثقافة العصرية لأنها تمثل حدا فاصلا لحقوق غير قابلة للإنكار. فهي ليست ترفا ولكنها مطلب جماعي. أضف إلي ذلك أن من أهم سمات وتطلعات الحركة العالمية لحقوق الإنسان أنها تعطي لمسألة التطبيق والتنفيذ والوفاء الفعلي بالحقوق نفس الأهمية أو أهمية أكبر مما تعطيه لصياغة وثائق أو طرح أفكار ومباديء وإبرام اتفاقيات علي حد قول الدكتور محمد السيد سعيد, رحمه الله. وعلي وجه الإجمال, إذا كان العديد من المفكرين الغربيين بشروا بتلك النهايات سواء أكان نهاية الأيديولوجيا أو نهاية التاريخ أو نهاية حقوق الإنسان.. إلي غير ذلك من النهايات, إلا أن التاريخ الحي كذب كل هذه التنبؤات, ذلك التاريخ الذي يخادع حتي أكثر طلابه جدا واجتهادا. [email protected]