كثيرة هي الكتابات التي تناولت المواقف وردود الفعل التي صدرت عن المسلمين، شعوبا وحكومات وهيئات، حيال أزمة الرسوم الدانماركية المسيئة للرسول الكريم محمد صلي الله عليه وسلم، غير أن أيا من تلك الكتابات لم يحاول أن يبحر في خضم العقلية الغربية بغرض الوقوف عند تعاطيها أو قراءتها لردود الفعل الإسلامية والتي من شأنها أن تسهم، إلي حد كبير، في تشكيل وصياغة رؤية الغرب للعلاقة بين الإسلام والعنف وتأثير تلك العلاقة علي ترسيم المعالم أو وضع الحدود لمساعي التقارب أوالتباعد بين الإسلام من جهة وبين الغرب من جهة أخري مستقبلا في ضوء حادثة الرسوم. ذلك أن دوائر ثقافية وسياسية غربية عديدة قد جنحت نحو قياس وتتبع ردود الفعل المختلفة التي صاحبت نشر هذه الرسوم المستفزة بين بقاع وحواضر العالم الإسلامي بغرض تحليلها والاستفادة من دراستها في قياس مدي استعداد شعوب ودول العالم الإسلامي أو نزوعها للعنف حيال الغرب واستعدائه كلما عنت فرصة للاحتكاك المتمثل في سوء الفهم أو سوء تفسير الرسائل المتبادلة من جهة، أو قابليتها وجاهزيتها للحوار الناجع والتعايش السلمي البناء مع "الآخر" من جهة أخري. وانطلاقا من هذا النهج،لاحقت مراصد غربية عديدة ردود الفعل المختلفة التي شهدتها عواصم العالم الإسلامي إزاء الرسوم المسيئة لنبي الإسلام والتي تباينت في حدتها وشكلها ما بين دولة إسلامية وأخري، بل وأحيانا في داخل الدولة الواحدة، حيث تجلي خلالها مستوي عال من التطرف والمغالاة في التعبير عن الاحتجاج و الرفض علي نحو ما جسده النموذج الهندي الأسيوي حينما قضت بعض جهات الإفتاء الإسلامية الهندية بإهدار دم المسئولين مباشرة عن نشر هذه الرسوم المسيئة للرسول، بل وعرض مكافأة مالية لمن يجهز عليهم. كما تجلي النموذج العربي الأقل حدة في استعمال العنف في التعبير عن الغضب والاستياء ،حيث غلب التوجه الانتقامي المطعم بالعنف ضد أهداف ومراكز غربية، علي التوجه القلق والمشوب بالحذر، والذي يطالب بحوار حضاري مع الغرب من شأنه أن يساهم في إعادة وضع أسس صلبة للعلاقة بينه وبين الإسلام بما يضمن احترام الأديان وعدم المساس بالمقدسات. وفي ذات السياق، تأتي النموذج التركي الأكثر ليبرالية وتسامحا والذي شكل شذوذا عن الموقف العام الذي عم الاقطار العربية والإسلامية جمعاء ،إذ لم يسجل داخل تركيا حالة اعتداء واحدة علي أي من المصالح أو الأهداف الأوربية علي خلفية نشر الرسوم المسيئة للرسول مثلما جري في دول إسلامية أخري عديدة. وهكذا، جاءت ردود الفعل الإسلامية الغاضبة والمتباينة في درجة حدتها، لتعيد إلي أذهان الغرب ذلك التقسيم التقليدي التعسفي ،الذي درج مفكرون غربيون من أمثال صموئيل هنتنجتون، علي إلصاقه بالإسلام ما بين إسلام أسيوي متطرف ينزع باتجاه تطويع النص الديني ولي عنقه بغية شرعنة العنف و إيجاد مبررات ومسوغات لاستخدامه علي نحو ما فعلت كتابات أبو الأعلي المودودي التي شكلت المرجعية الدينية والفكرية لغالبية التيارات الإسلامية المتشددة التي اتخذت من العنف آلية لتطبيق أفكارها وتنفيذ برامجها. ثم إسلام عربي يعمد إلي توظيف الدين لأغراض دنيوية سياسية بحتة علي نحو ثيوقراطي من قبل ولاة الأمر، الذين برعوا في جعل الدين غطاء لجورهم وتجاوزاتهم، كما استمدوا منه شرعية مطلقة لحكمهم المؤبد تستعصي بدورها علي المساءلة وتجرم الخروج علي الحاكم مهما بلغ به الظلم، علي غرار ما فعل الخلفاء العباسيون الذين تلقب بعضهم بالحاكم بأمر الله والمعتضد بالله وغير ذلك من الألقاب والمسميات التي من شأنها أن تضفي مسحة من القداسة علي الحاكم تنأي به عن المحاسبة أو العزل . علاوة علي ذلك، امتد تفنن أنظمة الحكم العربية في توظيف الإسلام سياسيا إلي الصعيدين الإقليمي والدولي لاسيما في تبرير الإخفاقات والتخفيف من وقع النكبات وصرف أنظار الشعوب عن هموم الداخل المزمنة. ووسط هذا الرسم الكاريكاتوري السوداوي الغربي للإسلام في شقيه الآسيوي والعربي، يطل برأسه الإسلام التركي الذي أفلح وحده في الإفلات من أخطبوط التطرف و إفساد الدنيا من خلال التعاطي الخاطيء والمشوه مع نصوص وتعاليم الدين. حيث يري الغرب أن الأتراك قد نجحوا في الترفع بالإسلام عن الوقوع في براثن الثيوقراطية السياسية والفكرية حينما تبنوا النموذج العلماني الذي أتاح لهم إرساء قواعد راسخة لمجتمع ديمقراطي تعددي أسهم في تحرير السياسة والمجتمع من أية سطوة مفتعلة للدين أو مغرضة لرجاله ورموزه، كما بلغت تلك الديمقراطية من الرحابة أن سمحت للأحزاب ذات الجذور الإسلامية بالمشاركة في العملية السياسية بل والوصول إلي سدة السلطة والحكم في البلاد وتحقيق إنجازات هامة وتاريخية فيما يتصل بمساعي تركيا الإندماجية مع الأوربيين أوتوثيق علاقاتها التحالفية مع الغرب، حيث تمكنت حكومة الحزب الديمقراطي التركي برئاسة عدنان مندريس في مطلع خمسينيات القرن المنصرم من إدراج تركيا ضمن قائمة الدول الأعضاء في حلف الناتو، كما نجحت حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان قبل أن ينقضي العام 2004 في انتزاع موافقة الاتحاد الأوربي علي بدء المفاوضات بينه وبين تركيا توطئة للحصول علي بطاقة عضويتة الكاملة. ويحسب الغرب للحركة الإسلامية التركية اختلافها ونظيرتها الماليزية، الواضح عن مثيلاتهما في باقي أنحاء العالم الإسلامي، فالإسلاميون الأتراك قد دشنوا مشروعهم منذ أربعينيات القرن الماضي عبر تأسيس عدنان مندريس للحزب الديمقراطي الإسلامي، ومن بعده سليمان ديميريل، وتورجوت أوزال، ثم نجم الدين أربكان حتي رجب طيب أردوغان، علي أسس إسلامية مرنة غلبت عليها الروح البراجماتية، ترمي إلي تحقيق مشروع محدد هو مصالحة تركيا الحديثة مع تاريخها وهويتها علي نحو متدرج وهاديء يتلافي إحداث أية أزمات اجتماعية أوهزات ثقافية، وذلك من خلال تهذيب التوجه العلماني للدولة والتخفيف من وطأة مجافاتها للدين،أي استبدال التوجه الأتاتوركي الموغل في العلمانية المتطرفة بآخر أكثر توازنا واعتدالا بشكل أقرب إلي النموذج الأوربي الذي يغلب عليه الحياد إزاء المسألة الدينية. لذلك، لم يكن للحركة الإسلامية التركية إسهام ملموس في التراث أو المكون الفكري العام للحركات الإسلامية، وإنما انصبت جهود الإسلاميين الأتراك في هضم قيم وتقاليد الديمقراطية الغربية والتأقلم معها ومن ثم اتخاذها وسيلة لتأكيد الحضور السياسي للحركة عبرالمشاركة السياسية الفاعلة في الانتخابات والسلطة التي أبلي فيها الإسلاميون الأتراك بلاء حسنا علي نحو خول حزب أردوغان علي سبيل المثال لتشكيل الحكومة الحالية بعد نجاح ملحوظ وأداء متميزعلي مستوي المحليات. غير أن المسيرة التفاعلية، التي اتشحت بغمامة صراعية، بين الإسلام والغرب ربما تشي بأن مسحة من التناقض أو الانقسام تكاد تكسو الموقف الغربي من الإسلام التركي . ففيما يحجم الاتحاد الأوربي أو يتردد في منح تركيا العضوية الكاملة استنادا إلي اعتبارات ثقافية ودينية بالأساس، وإن تغلفت بأسباب اقتصادية وسياسية شكلية، حيث يبدو الأووربيون غير مستعدين لهضم أو استيعاب أكثر من سبعين مليون مسلم تركي ضمن نسيجهم الاجتماعي والثقافي، تتطلع الولاياتالمتحدة إلي توظيف علاقاتها التحالفية بتركيا ذات الجذور الإسلامية والوشائج العربية،التي تجعل منها جسرا مثاليا للتواصل الحضاري بين الإسلام والغرب، إلي جانب مقوماتها الجيوإستراتيجية المتميزة في قلب منطقة الشرق الأوسط، من أجل تعزيز النفوذ الأمريكي و تعظيم المصالح الغربية في تلك البقع الهامة من العالم . وفي الوقت الذي لا يتورع الأوربيون عن إبداء تخوفهم وعدم ارتياحهم لدمج المسلمين الأتراك في ناديهم الاتحادي المسيحي، تجدهم يشيدون برد الفعل التركي حيال أزمة الرسوم الدانماركية المسيئة للرسول، بل ويعتبر نفر من مفكريهم ومنظريهم من أمثال البريطاني برنارد لويس والفرنسي ألكسندر أدلير، أن خلاص الإسلامين العربي والآسيوي من براثن العنف والرفض للقيم الغربية بما فيها قيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان وقبول الآخر والتعايش رغم الإختلاف ،إنما يكمن في تبني الدول الإسلامية في العالمين العربي والأسيوي واستلهامها للنموذج التركي . وفي كتابه الأخير الذي صدر قبل أيام بعنوان "موعد مع الإسلام"، يري أدلير أن إصلاح الإسلام، بمعني تنقيته من شوائب العنف والتطرف الفكري التي علقت به علي نحو ما جسده النموذجان الطالباني والبن لادني، ومن ثم تطويعه للتواؤم مع قيم الحداثة الغربية ومؤازرته علي استيعاب تلك القيم، إنما يتأتي من خارج العالم العربي حيث تركيا العلمانية أو إيران الإصلاحية. من هنا يبدوأن الموقف الأوروبي من الإسلام التركي ينطوي، من جانب آخر، علي تناقض صارخ من شأنه أن ينال من صدقية وجدوي دعاوي التبشير الغربية بالنموذج التركي ومساعي تعميمه علي مستوي الدول الإسلامية كافة ،العربية منها وغير العربية. ذلك أن الأوروبيين يدعون العرب علي سبيل المثال إلي تبني نموذج يزعمون أنه مثالي، وأنه يعد بمثابة السبيل الوحيد لإزالة الحواجز التاريخية والآنية بين الإسلام والغرب، فيما هم يتبرأون من نفس النموذج ثقافيا وحضاريا ويحجمون عن استيعابه في ناديهم المسيحي المغلق بالرغم من امتلاك الأتراك لنصيب لابأس به من المقومات المؤهلة.