تاريخيا يطلق مسمى الحبشة على سكان المرتفعات الجبلية في شمال شرق إثيوبيا الحالية، وهؤلاء يعتبرون أقلية وهم يتكونون من شعبى «الأمهرا» أو «التجراي». بينما يطلق مسمى «إثيوبيا» بالمعنى السياسي والجغرافي على الإمبراطورية التوسعية التي بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر علي يد منيليك الثاني وبمساعدة القوى الغربية، عبر السيطرة على العديد من الأقاليم وضمها ومنها إقليم «بنى شنقول جوموز» الذي يقام فيه سد النهضة، والذى كان جزءا من السودان المصري إلى أواخر القرن التاسع عشر. ولابد من الإشارة هنا إلى أن حركة تحرير بنى شنقول تقول بان الإقليم محتل من إثيوبيا وتعارض إنشاء السد، باعتباره سيلحق الضرر بالإقليم بينما ستعود الفوائد لصالح النظام الاثيوبى الذي يخضع لقيادة تحالف الأمهرا والتجراى. الداخل الاثيوبى ومن المعروف أن طبيعة تركيب الدولة الإثيوبية الحالية تعاني من احتقانات وتفاعلات صراعية ترتكز علي العرق والدين في دولة تزخر بتنوع هائل يحتوي علي أكثر من 83 قومية/ إثنية. ورغم إعلان مبدأ الفيدرالية وعلمانية الدولة طبقا للدستور الحالي، فإن هناك مثلثا يسيطر علي السلطة يتمثل في تحالف بين الديانة المسيحية واللغة الأمهرية والقومية المسيطرة في تحالف ثنائي بين الأمهرا والتجراي. وهذا المثلث الذي يعبر عن أقلية عددية يظل هو الحاكم والمسيطر علي باقي مكونات الطيف الإثيوبي، حيث ظلت المسيحية الأمهرية أو التجراوية في صراع دائم مع بقية المكونات العرقية الاخري التي تمثل هوية أثنية ودينية مختلفة كالأغلبية الإسلامية للأرومو والعفر والصوماليين والهرريين وغيرهم. الأهداف السياسية ولذا، فإن سد النهضة يستخدم في هذا السياق كأداة أو آلية تعبوية لحشد الشعوب والاثنيات الإثيوبية خلف النظام القائم، عبر إيهام الإثيوبيين بأن هذا السد سيكون بوابة إثيوبيا نحو التنمية والحداثة، عبر توليد الطاقة، رغم أن الداخل الاثيوبى لن يستخدم إلا ثلث الطاقة المنتجة من سد النهضة أو أقل، والباقي سيتم تصديره إلى الخارج بسعر التكلفة، الأمر الذي لا يتناسب مع التكلفة الاقتصادية الباهظة، ولا مع الحملة المسعورة التي يتم ترويجها فى الداخل عبر جمع تبرعات إجبارية للسد وجعله جزءا من الحديث اليومي للشعوب الإثيوبية. إستراتيجية الخداع عقب ثورة يناير 2011 قامت إثيوبيا سعيا وراء الاستفادة من الارتباك الداخلي في مصر بمضاعفة السعة التخزينية لسد الحدود الذى كان مقررا فى هذه المنطقة إلى خمسة أضعاف (74.5 ميار م3) تحت مسمى سد النهضة، واتبعت سياسة طويلة الأمد للخداع والمناورة وشراء الوقت، وتحويل السد إلى أمر واقع عبر أساليب عديدة، حتى مرت ثلاث سنوات دون إحراز اى تقدم نحو اى حلول وسط أو تفاهمات. وفى هذه الأثناء استطاعت إثيوبيا أن تؤثر على موقف السودان، عبر خطط منظمة وبأساليب متعددة، تقوم بالأساس على الانغماس في تفاصيل الشأن الداخلي السوداني، وفى ظل أزمة الرئيس البشير مع المحكمة الجنائية الدولية وصراعاته الداخلية المتفجرة على جبهات شتى، لم يعد أمامه اى مجال للحركة أو المناورة، وأصبحت معظم أوراق أزماته السياسية الداخلية تناقش في أديس أبابا. والمسألة الأكثر أهمية فى هذا السياق أن إثيوبيا لا تعترف حتى الآن بالقواعد الدولية من عدم إلحاق الضرر أو الإخطار المسبق، ولا تعترف بالاتفاقيات السابقة أو الحق التاريخي، ولا توجد اتفاقيات حول كيفية التصرف في المياه المحتجزة خلف سد النهضة أو السدود الثلاثة الأخرى المقررة على نفس النهر. وذلك في الوقت الذي تزعم فيه إثيوبيا أن المياه ملك خاص لها، الأمر الذي يعنى أن إثيوبيا تسعى لان تكون الطرف المتحكم في المياه بشكل منفرد، من أجل هدف آخر، يتم إخفاؤه الآن عمدا، وان كان قد جرت الإشارة إليه فى سياقات أخرى، وهو الهدف المتمثل في بيع المياه ونقلها أيضا خارج الحوض. الأهداف الإستراتيجية ظهرت فكرة بيع المياه في عقد التسعينيات من القرن الماضي، ومضمونها الرئيسي يقول بأن على الدول المتشاركة في حوض نهر واحد أن تقوم باقتسام الحصص، وعلى الدولة التي تحصل على أكثر مما هو مقرر لها، أن تدفع ثمن هذه الزيادة، وهذا الثمن يقدر بأدنى سعر للبدائل المتاحة (في حالة مصر البديل المتاح هو تحلية مياه البحر وتكلفة المتر المكعب الواحد تبلغ حوالي دولار امريكى). ومن الواضح أن هذه الفكرة هي الهدف النهائي الذي تصبو إليه اتفاقية عنتيبى بنصوصها الحالية، حيث تم رفض الإشارة إلى الحقوق التاريخية تحقيقا لهذا الغرض. وإذا مددنا حبل التفكير إلى آخره، فان إقرار حصص مائية لدول لا تحتاج إلى هذه المياه، يعنى تلقائيا أن هذه المياه سوف تباع، ومن الواضح أن السدود الإثيوبية ليست سوى الآلية التنفيذية لهذه الفكرة أو المبدأ الجديد المراد تطبيقه، حيث إن اثيوبيا هي الطرف المعنى كما أنها الطرف الرئيسي الذي وقف خلف تغذية الخلافات ثم التوقيع المنفرد على اتفاقية عنتيبى. وإذا أخذنا فى الاعتبار أن البعض في دول المنابع يعتبرون أن حصة مصر ينبغي ألا تزيد على 40 مليار متر مكعب، فعلينا أن نتخيل صورة الأوضاع والأعباء المستقبلية التي سيتم من خلالها السعي لابتزاز مصر عبر سلاح المياه، وربما أيضا إتباع سياسات الإملاء والإكراه التي مازالت من خصائص أسلحة الدمار الشامل دون غيرها. هذا الأمر سوف ينتج عنه بلا شك تحول جيوسياسى في الإقليم، حيث تتحول إثيوبيا إلى دولة كبرى فى القرن الافريقى وحوض النيل، وسوف تكون هذه السدود إيذانا بتطبيق الهدف الخاص بأن تكون إثيوبيا (مجمع البحار ومجمع الأنهار) بمعنى الطرف المتحكم في الدول الواقعة على مداخل البحر الأحمر من الناحية الجنوبية، وكذلك تلك الواقعة في منابع النيل، حيث تكون محاطة بدول او دويلات صغيرة تدور فى الفلك الاثيوبى، الذى سوف يكون بدوره نقطة ارتكاز أساسية للسياسات الأمريكية تجاه المنطقةوللاستراتيجيات الإسرائيلية الظاهر منها والخفى. ومن ثم، فإنه يمكن القول إن الهدف الأساسى هو دفع مصر نحو دائرة مغلقة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بما يقضى على دورها ويخرجها من تفاعلات المنطقة وربما يؤدى بها إلى نتائج أكثر من ذلك. كما سينتج عنه للأسف استنزاف كل من مصر والسودان والدفع بهما إلى علاقة صراعية بدلا من العلاقة التعاونية المستهدفة حتى الآن، فى حين يبقى الطرف الاثيوبى متفرجا وقابضا على سياسات المياه فوق الهضبة.