نعم. ثمة سوق لتصدير الدين. هكذا تقول النظريات الإنجليزية الأحدث فى عولمة العنف، وفى انتزاع الدين من سياقاته الثقافية حتى يمكنه التواؤم مع محيط أوسع من الجغرافيا، ثم يتهيأ للعب دور الإرساليات التبشيرية القديمة. وهكذا يأخذ «حق التدخل» معنى أكثر سفورا وجلاء، وهو الحق الذى صاحب رأس المال متعدى الجنسيات والهويات . والعنوان الصادم الذى يطالعه القارئ الكريم هنا ليس من عندياتى، لكنه العنوان الأبرز ضمن كتاب مهم للمفكر الفرنسى « أوليفييه روا» صدر عن دار الساقى تحت عنوان «الجهل المقدس» بترجمة ل «صالح الأشمر». أما التعبير الأكثر صدامية فى الكتاب فربما يتأتى من تحويله الدين من مُعطى أخلاقى إلى مُعطى تسويقى تنطبق عليه قوانين الدعاية حتى لو لم يكن ممثلا لحقيقة اجتماعية فى الأماكن المعدة للغزو. من هنا يبدو لباس السلفيين موضع احتفاء، وقمصان جماعات «هار كريشنا»، بثوبها الزعفرانى موضع إعجاب. ينطبق ذلك على البوذية والهندوسية والصوفية وجماعات العنف وغيرها. فالأصل هنا إعادة صياغة نظام الاعتقاد بحيث ينفصل عن المكان الذى نشأ فيه ومن ثم يصبح صالحا للتداول والاستعمال فى الأماكن التى تبدو غريبة عنه. يناقش «روا» أحدث نظريتين فى تاريخ الأديان وعلم الإناسة، الأولى حول «سوق الدين» والثانية حول «التثاقف» وهو النمط الذى تفرضه الثقافة المهيمنة وتضطر ثقافة المغلوبين إلى التكيف معه، من هنا فإن المؤلف يرى أن نتائج العولمة هى نفسها نتائج الاستعمار. إذن سيظل النفخ فى الأصوليات مدخلا آخر للغزو، وسيتعمق حق التدخل بأشكال مختلفة. وقد ساعد التاريخ الاستعمارى نفسه فى تعميق تلك الأصوليات وايجاد عداوات وهمية معها. فقضايا مثل عبدة الشيطان وزواج المثليين والجنوسة تظل عالقة فى الأذهان باعتبارها معطى غربيا يعزز الفرقة بين طرفين أقواهما يعمل دائما فى الخفاء لتأجيج الثانى. ويظل هنا المعيار الدينى حاكما بشكل دائم للنظرة إلى مايسمى ب «الثقافة الأصيلة». وربما لاستمرار الالتباس بين ما هو ثقافى وما هو دينى كانت العولمة فى حاجة دائمة لإعادة صياغة الدين عبر عدد من المعايير المنفصلة عن كل سياق ثقافى ومن ثم تجديد قدرته على النفاذ. الصراع لا يستمر فقط بين الثقافى والدينى لكنه أيضا ينسحب على الصراع مع العلمانية حتى فى أعتى قلاعها. مظاهر ذلك ليست فقط لدى الأصوليين الإسلاميين، وتعزيزهم لفكرة الاغتراب داخل مجتمعاتهم باعتبارهم يمثلون المسلمين الصالحين، بل ينسحب على قطاعات ليست قليلة من الأصوليين كما يعبر عن ذلك البابا بندكتوس السادس عشر باعتبار الحرية والديمقراطية تتسببان فى مشكلة حقيقية، وقد كشف استطلاع للرأى أن 5% من أصل 70 % من الفرنسيين هم من يمارسون شعائر الكاثوليكية مما ما دعا بعض الأساقفة إلى القول إن الدين فى الغرب بات يمثل أقلية. وقد رفض رهبان يهود فى إسرائيل أية حوارات ممكنة مع دعاة العلمنة باعتبارهم أعداء تاريخيين للحق الإلهى ، فهم موصومون فى العالم كله بالوثنيين الجدد ، بمعنى أنهم يغيبون الله مقابل البحث عن مصادر أخرى للقوة ، هذا رغم أن قيام العلمانية بالفصل بين الدينى والسياسى ، لم يستتبع جدلا حول القيم الأخلاقية، التى بقيت على الأرجح بلا تناقضات، ومع ذلك ظلت المجتمعات الأصولية، حسب المؤلف، مجتمعات للريبة والشبهة، لذلك ظلت محفوفة بالخوف، حدث ذلك حتى مع أنظمة عقائدية غير دينية مثل الستالينية. هذه المشاعر طبعا تدفع إلى تقليص دور الهامشيين المتصف بالانفلات عادة، الأمر الذى يجعل هذه المجتمعات محكومة بعدم الاستقرار. والدولة الحديثة عموما تعمل على نموذج مناقض تماما ، فهى لا تسعى للقضاء على الهوامش بل تسعى لإدارتها. يتزايد بالطبع حجم التناقض بين الأصولية وبين الدولة بمعناها الواسع، من هنا تعجز تلك الجماعات عن أن تكون مجتمعا والمجتمع بطبيعته لا يتصاغر إلى جماعة. فهل يمكننا القول إن الداعمين الجدد فى التكتل «الأوروأمريكى» يدركون حجم المخاطرة التى تواجه مجتمعاتهم حال تنامى مشاعر البغض والعصبية المقبلة من أطراف ليست محسوبة بدقة؟! فإذا كان يمكننا مثلا تفهم الدعم المطلق لإسرائيل كرأس رمح لتكتلات المصالح ، هل يمكننا أن نفهم دعم تحول تلك الدولة إلى دولة يهودية، بل ودعم اللغة العبرية القديمة باعتبارها لغة لدنية؟! كل ما يمكننا قوله هنا، خلف المؤلف، إن الأصولية تتقدم بخطى واثقة لتملأ العديد من الفجوات باعتبارها ممثل الحقيقة المطلقة، بينما تتوارى الثقافة باعتبارها واحدة من تجليات الوثنية. الصراع هنا يشمل أولا: وضع كل الثقافات التى تسعى للخلود موضع مساءلة لتعود إلى نسبيتها صاغرة، وثانيا: يحل مجتمع الإعلام والدعاية محل دولة المعرفة حتى يسهل تسويق المنتجات الجديدة . أتصور أن أهمية هذا الكتاب تتأتى مما لم يقله «أوليفييه روا». فالجانب الأكبر من توصيف مايحدث الآن فى العالم العربى يرتبط بالدعم ال «أوروأمريكى» للإسلام السياسى فى أكثر مفاصله تشددا، ويبدو أن جراب العولمة مازال ينطوى على الكثير من الأعاجيب . إن الحلف «الأوروأمريكى» يلعب بأخطر ورقة يمكن اللعب بها منذ الحرب الصليبية . فإذكاء الصراع بين الأصوليات على هذا النحو الذى شهده العالم مع حلول العولمة ليس بإمكانه إعادة الإرساليات التبشيرية كمقدمة لغزو جديد فحسب، بل بات بإمكانه الاحتفاء بمزيد من «الجهل المقدس» الذى يدفع الأصولية إلى نبذ العلم، باعتبار أن طريق الايمان لا يجب أن تلوثه المعرفة! هذه هى المضامين غير الدقيقة لكتاب «الجهل المقدس» لمزيد من مقالات محمود قرنى