بعض الكتاب يمتلك وعيا ثاقبا يشبه ضوءا ساطعا ينير لنا الخرابات المعتمة التى تتناثر فى طرقات الحياة، ويتجنب الناس المرور بها فى سعيهم اليومى المعتاد، خشية أن يقفز منها عفريت يفزعهم ويصرخ فى وجوههم، ويصارحهم بأمور يتحاشون مواجهتها. بعضها قد يكون صحيحا، ولكنهم تعودوا النفور منه منذ طفولتهم، وبعضها الآخر قد يكون خاطئا ولكنهم توارثوه عن آبائهم. أولئك كتاب أحب أن أقرأ لهم، وتعودت أيضا أن أهتم بالاطلاع على تعليقات القراء على مقالاتهم. فى البدء كانت تفزعنى حدة البعض فى رده عليهم بطريقة تفتقر إلى الموضوعية، أو فى تطاوله الذى يمسهم بعبارات جارحة لا تتناول بالنقد ما يطرحونه من أفكار بقدر ما تسبهم أو تسخر منهم كأشخاص، بل وحتى من هيئتهم التى خلقهم الله عليها ولا يملكون لها تبديلا! وكنت أفسر ذلك بعدم اعتيادنا على ممارسة النقد التحليلى الذى يبنى على العقل ولا تقوده العواطف والانفعالات. لكننى اكتشفت أن الأمر يحتاج إلى تفسير أكثر دقة. خصوصا وأنها ظاهرة تضم نسبة لا يستهان بها من أنصار التيارات الدينية. رغم أن الأديان كلها تحض على القول الحسن ومكارم الأخلاق! إذن، ما الذى يدفع قارئا ملتزما إلى هذا السلوك؟ أظنه سؤال يحتاج إلى أن نجتهد للإجابة عنه. ربما تتفق معى فى أن البشر يكبرون على أفكار ومعتقدات لا يتوارثونها فقط، بل يرضعونها كالحليب، لكن الفرق هنا أن رضاعة الأفكار فطامها أشد قسوة على الكبار من فطام الصغار عن حليب أمهاتهم! كذلك المجتمعات التى تفتقر إلى فكر الصدمة والمواجهة، وتغيب عنها ثقافة صراع الأفكار التى يعتادها القراء فى مجتمعات أخرى، وقد يألفها لدينا قارئ الكتاب أكثر من قارئ الصحيفة، التى عادة ما تتحاشى تناول الموضوعات التى قد تؤدى إلى زعزعة الأفكار السائدة، التى تدغدغ مشاعر الأغلبية الكاسحة ممن يفضلون التمرغ فى أحضان من يخبرهم بأنهم على صواب، بينما البشرية بأسرها فى ضلال مبين! ناهيك عن أن الاقتراب من تلك الأفكار بالنقد العلمى المتجرد قد يقود إلى الحديث عن ضرورة الفطام عنها وهو طريق محفوف بالمخاطر! دعنا نعُد مرة أخرى إلى الكاتب صاحب الرؤية الثاقبة الذى لا يخشى الاقتراب من تلك المناطق المحرمة. هل تتوقع أن يسامحه القارئ عندما ينتزعه من ثدى الأفكار التى يألفها وينام ويصحو على حليبها الدافئ الممتع؟ بالطبع لا، لأنه يتحول ساعتها إلى مجرم أثيم يصفع قارئه بأفكار تفزعه وتحطم مرآته الموروثة السحرية التى تخفى عيوبه، وتصنع له صورة أجمل مما يستحق، وقد ينجم عن تحطيمها اكتشافه صورة واقعية لنفسه تساوى بينه وبين فئات من البشر شب على التقليل من شأنها وربما تكفيرها! المراهقة الفكرية يا سادة قد تكون فردوسا لمن يعيشونها، فهى تصور لهم أن الإيمان بالله والتمتع بجنته حكرٌ على من ينتمون إلى طائفتهم فقط، لأنهم أرقى من غيرهم! وهذه الأكذوبة تمنحهم مبررا زائفا للاستعلاء على حضارات يسبونها ليل نهار ويدّعون أنها لا تستحق مثلهم رحمة الله وجنته، رغم أنها أبدعت جل ما يستخدمونه فى معاشهم! بينما هم يتكاسلون عن السعى لإضافة أى إسهامات ولو متواضعة تثرى حياة الآخرين! أى على رأى المثل حسنة وأنا سيدك! وغيرها كثير من أفكار يعد فراقها فطاما عن الزيف، أو الأصح أنه فطام عن حليب الجهل المقدس! وذلك باستلهام المصطلح المدهش الذى ابتدعه الباحث الفرنسى العبقرى أوليفييه روا، والذى وضعه عنوانا لكتابه البالغ الأهمية، «الجهل المقدس»، الذى يتناول فيه تنامى الحركات الأصولية المعاصرة، الإسلامية والبروتستانتية، التى تعادى الثقافة وتحرِّم الفلسفة والسينما والموسيقى والفنون والآداب على اختلافها، لأنها لا تضيف شيئا إلى التدين الحق، بل إنها تلهى الإنسان عن العبادة وذكر الله، وعلى هذا فمن وجهة نظرهم، يعد البعد عن الثقافة نوعا من التطهر وحماية للمؤمن من التلوث والدنس الفكرى! فكأنما زيادة جهل الفرد تؤكد عمق إيمانه! وهكذا يتم إفراغ العقل من القدرة على تذوق الإبداع البشرى، والاكتفاء بما يقدمه الدين الذى يتم اختزاله وابتساره بطريقة مخلة إلى حلال وحرام، وشعائر وطقوس، وقتها -أعزكم الله- يتم إضفاء القداسة على الجهل ذاته ليصبح جهلا مقدسا! لأنه يقربك أكثر إلى الله! ولهذا فلا عجب فى أن يظهر لنا القارئ الكريم المخدوع الذى يظن أن أوهامه التى أوصلته إلى مرحلة الجهل المقدس، تحتم، بل وتوجب عليه تحطيم المصابيح الملعونة التى يسلطها ذلك الكاتب المارق على خرائبه العقلية، مخافة أن يكسر مرآته الموروثة السحرية ويلقى به إلى جحيم آلام الفطام! فطامه عن حليب الجهل المقدس! هذا هو السبب فى أنه لا يناقش الأفكار، ولا يطرح رؤية نقدية لتصويبها، بل إنه لا يرى فى ذلك الكاتب اللدود إلا صورة شيطانية تتصدر المقال! ساعتها قد ينتقد شعر رأسه الذى يحتاج إلى تهذيب! أو شاربه، أو حمالات بنطاله! أما إن كانت كاتبة سافرة، فلن ينتقدها إلا فى ضرورة أن تستر شعرها! وكأنما أفكارها التى يرفضها تمثل عورة عقلية، تعد امتدادا لما يظن أنها لم تستره من عوراتها الجسدية! وإن كانت محجبة فقد يتهم أفكارها بالجنوح عن الصواب، لأن أباها شيطان وأمها شيعية مارقة! ولا شك فى أن التجائه إلى هذا الأسلوب العاجز يعود إلى أنه غير مؤهل لممارسة النقد لابتعاده عن قراءة الفلسفة والعلوم الإنسانية! فطوبى لمن يستخدمون عقولهم، وطوبى لمن يُفطمون مبكرا عن حليب الجهل المقدس!