لا يمكن أن ينكر منصف أن الشباب هم المحرك الرئيسي لثورتي الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو, وعندما كنا نشاهد أحداث الثورة من خلال الشاشات كان هؤلاء الشباب يتلقون رصاصات الاستبداد والغدر والفاشية في صدورهم. من أهم قواعد العدالة الانتقالية أن يعتمد صانع القرار خلال مرحلة ما بعد الثورة علي من أزاحوا تلك الأنظمة, لمواجهة انتهاكات الماضي والمضي نحو المستقبل. ويجب ألا يغيب عن البال أن أول من دعا إلي تطبيق آليات العدالة الانتقالية هم الشباب, وبالتالي فليس من المعقول أن نغض الطرف عن كم الغضب الذي ينتابهم وهم يشاهدون تلاحق الأحداث بدون القصاص العادل لشهدائهم في ظل غياب آليات العدالة الانتقالية التي بحت أصواتهم من المطالبة بتطبيقها. ناهيك عن استدعاء النظام السابق القتلة والمجرمين في الاحتفالات الرسمية والمحافل العامة, في ظل منهج متعمد لإقصاء شباب الثورة والرموز الوطنية عن المشهد, وكلها أمور أصابتهم وسائر المواطنين بالإحباط الشديد. لقد دعونا بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير إلي تطبيق آليات العدالة الانتقالية وفقا لاستراتيجية وطنية شاملة ومدروسة عن طريق كيان محايد ومستقل, بما يحقق مطالب الشباب المحركين لأحداث الثورة, وجموع الشعب الذي لولاه لما نجحت. وبدلا من ذلك تم اتخاذ إجراءات شكلية غير مدروسة تحت مسميات العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية أدت إلي نتائج عكسية. إن الإجراءات الشكلية والسطحية لم تعد تجدي نفعا مع شباب مصر المخلصين والوطنيين, فهم يعرفون جيدا حقوقهم, ويعلمون واجبات نظام الحكم حيالهم, والتزاماته تجاه وطنهم. لذلك فقد كان من الواجب الاسترشاد بتجارب الدول الأخري في التعامل مع رموز الفساد والاستبداد والفاشية, بما يمنع إعادة انتاج النظم السابقة. فبعد سقوط النظام النازي في ألمانياالغربية تم إقصاء رموز هذا النظام عن المشهد تماما إما عن طريق المحاكمات الجنائية أو عن طريق تطبيق سياسات العزل والتطهير, ولم تطل تلك الآليات عناصر النظام كله, بل تم فتح الأبواب لمن نبذوا أفكاره للعودة إلي الصف الوطني والمساهمة في بناء ألمانيا الجديدة, وبادرت فرنسا إلي إصدار عدة قوانين لمواجهة أعوان النظام النازي طالت مجالات السياسية والإعلام والاقتصاد, وأنشأت إيطاليا عام1944 مجلسا ضد الفاشية, وأصدرت الدنمارك عام1945 قانونا يسمح بتطهير مؤسسات الدولة من المنتمين للنظام النازي والتحفظ علي أموالهم ومصادرتها وقانونا آخر ينظم أحكام جريمة الخيانة العظمي والجرائم ضد الدولة. وبعد سقوط الأنظمة الشيوعية الشمولية في دول الاتحاد السوفيتي السابق تم إصدار قوانين مفصلة تحدد قواعد الفحص والمراجعة والمحاسبة والعزل للمسئولين عن الفساد والاستبداد, وفي تشيكوسلوفاكيا تم إصدار قانون عام1991 للفحص والمراجعة لتطهير مؤسسات الدولة ممن مارسوا سياسات القمع والفساد وقانون آخر عام1993 بإعلان عدم شرعية النظام الشيوعي السابق, وفي كمبوديا تم إصدار قانون عام1994 بحظر جماعة الخمير الحمر والتحفظ علي أموالها واعتبار من يستمر في الانتماء إليها بعد صدور القانون عدوا للدستور والوطن, مع فتح الباب لمن يتخلي عن أفكارها ومبادئها لإعادة الإندماج في المجتمع. وهناك العديد من الأمثلة الأخري لقوانين صدرت في دول أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا في المجالات المتقدمة لا يتسع المقام لعرضها, وهي تهدف أساسا إلي الحد من النفوذ السياسي والاقتصادي لرموز النظم السابقة ممن أفسدوا وأجرموا في حق الوطن, ومواجهة الخلل السياسي الذي تسببوا فيه, وغل يد أعوانهم الذين يعيثون فسادا بمقدرات الوطن, مع ضمان تطهير المؤسسات من بقايا البنية البيروقراطية التي كانت تستند إليها تلك الأنظمة, وشل نفوذ الممانعين ومنعهم من إعاقة مسيرة الإصلاح والتغيير. ومن الملاحظ أن الإجراءات المتقدمة, بالنظر إلي طبيعة المرحلة التي تطبق فيها يتم تبينها وفقا لقوانين العدالة الانتقالية التي تضع لها ضوابط ومعايير محددة بدلا من أن توصم بالتحكم والاستبداد, وإن تطبيق تلك القوانين والإجراءات يتم دائما تحت الرقابة القضائية. فأين نحن من كل هذا؟ فبدلا من أن يتم الاسترشاد بتجارب الدول السابقة واختيار ما يصلح منها للتطبيق علي الوضع في مصر, رأينا كيف عمد رموز النظام السابق إلي انتقاء آليات العزل والإقصاء وتطبيقها بطريقة انتقائية غير عادلة, واستخدام مصطلح التطهير في غير موضعه, بغرض تقويض دعائم دولة القانون ومؤسساتها بدلا من إصلاحها, ولعل ما حدث لقضاة المحكمة الدستورية العليا ممن وقفوا في وجه هذا النظام مدافعين عن دولة القانون كان أكبر دليل علي ذلك. إن التطبيق الصحيح لآليات العدالة الانتقالية عقب سقوط نظم القمع والاستبداد, من خلال منظومة قانونية ناجزة تتفق وقواعد المشروعية, هو أمر يسهم في تمكين المجتمع من المضي قدما في طريق الإصلاح والتقدم ومنع تكرار المظالم. ولا يعني عرضنا للتجارب السابقة أننا ندعو إلي تطبيق سياسات الانتقام والإقصاء, بل إلي إجراء دراسة متكاملة للوضع في مصر, تعتمد علي الحوار المجتمعي, ترمي إلي إجراء فحص شامل لأخطاء رموز الأنظمة السابقة ومراجعة أعمال العاملين في مؤسسات الدولة لتحديد الصالح منهم والطالح, واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع الفاسدين من الاستمرار في فسادهم, ورموز الاستبداد من الترويج لأفكارهم, والطغاة من العودة لطغيانهم. إن سقوط الأنظمة الواحد تلو الآخر وعدم تطبيق إجراءات العدالة الانتقالية بطريقة مدروسة وفاعلة أدي إلي تفاقم الأضرار وتراكم المظالم, وأخصها مظالم مفجري الثورة وضحاياها وذويهم, بما ولد إحباطا شديدا لديهم وشعورا عاما بأن ثوراتهم تسرق منهم, وهو أمر يجب تداركه علي الفور وإلا كانت العواقب وخيمة. نائب رئيس محكمة النقض لمزيد من مقالات المستشار.عادل ماجد