فلول مصر وأزلام ليبيا وتجميعيين تونس.. تعابير ومصطلحات ظهرت مع الثورات العربية، وهي في الحقيقة صفات لحقت بالطرف الآخر مع الثورة، وأثارت جدلاً واسعاً في تحديد معاييرها وكيفية تعامل السلطات الحاكمة معها، إذ لم تكن معتادة في قاموس الثورات التي سبقتها في التاريخ. ففي كل ذكرى من ثورات الربيع العربي يثور الجدل من جديد مع قانون العزل السياسي الذي صعد إلى واجهة الأحداث في البلاد.
وبعد عامين على انطلاق الربيع العربي والآمال التي أثارها، حذرت منظمة هيومن رايتس ووتش من أن الأنظمة الجديدة التي انبثقت عنه غالباً ما تتجاهل حقوق الإنسان، مشددةً على أن التحدي القائم الآن يكمن في بناء ديمقراطيات تعتنق هذه المبادئ.
ما هو العزل ؟ ويعرف البعض العزل السياسي على أنه مرتبط جذرياً بمحاكمات النظام السابق، فأهداف العزل ليست فقط تطهير المؤسسات من بقايا البنية البيروقراطية التي كان يستند عليها النظام السابق في أفعاله وتجريد العناصر التابعة له من الشرعية وضمان استبعادها من العملية السياسية الوطنية. ولكن يرى الكثيرون أنه يجب النظر إلى العزل السياسي في سياق أوسع وأشمل، كوسيلة لعقاب الأفراد على الخلل السياسي الذي تسببوا فيه، فهو أداة يعبر فيها المجتمع عن الرفض العام لهذا السلوك الإجرامي في إدارة الدولة وتوجيه تحذير قاس لمن يتقلد تلك المناصب في المستقبل.
بالإضافة إلى أن العزل السياسي يكفل توفير قدر من العدالة للضحايا ويُمَكن الضحايا من استعادة كرامتهم. كما يساهم أيضاً في تعزيز ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وقدرتها على إنفاذ القانون.
معايير العزل ولا شك أن التوسع في معايير العزل السياسي لا يكون فقط عرضة للأهواء والصراعات السياسية، بل يؤدي أيضاً إلى استهداف فئات كثيرة ووضعها في خانة الأعداء بينما كانت في الواقع من المساهمين في نجاح الثورة وليست معادية لها، ولكن من الإنصاف أيضاً القول بأنه ليس كل المنشقين الذين انضموا إلى الثورة كانوا منحازين إلى ما ترفعه من أهداف ومبادئ، فلعل بعضهم قام بعملية مفاضلة بين احتمالين وهما انتصار الثورة أو انتصار القذافي، فاختار المراهنة على الاحتمال الأول؛ لأن قراءته للواقع قادته إلى القناعة بأن المرحلة لم تعد مرحلة القذافي الذي كان يعمل في ظله لعدة سنوات.
وتأكيداً عليه فإن الجدل حول معايير العزل السياسي لا يعكس فقط الحرص على الثورة، بل يعكس أيضاً حالة من الصراع بين تيارات سياسية، فهناك من يتمسك بضرورة عزل كل من تبوأ منصبا في ظل نظام ما قبل الثورات بصرف النظر عن تاريخ انشقاقه ومساهمته فيها، لأنه يهدف بذلك - في حقيقة الأمر- إلى استبعاد شخصيات يعتبرهم منافسين أقوياء لا يستطيع هزيمتهم سياسياً إذا ما دخلوا حلبة التنافس السياسي معه.
ولذا فليس أمامه سوى تأييد فكرة تعميم معايير العزل السياسي حتى يقع هؤلاء تحت طائلة قانون العزل، بينما يعارض هؤلاء المستهدفون فكرة التعميم ويتبنون معايير تأخذ بعين الاعتبار نظافة اليد والأداء أثناء الثورة وتواريخ الانشقاق، لأنهم يدركون أن التعميم هو سلاح في يد منافسيهم.
ويرى البعض أن هذا الجدل حول الانشقاق والعزل في ثورات الربيع العربي، مرده أن هذه الثورات لم تقع في القرن الثامن عشر ولا بداية القرن العشرين حيث لم يكن لأعداء الثورات المنتصرة آنذاك مكان آخر سوى القبر!
كيف يمكن تحقيقه؟ ويمكن اعتبار تحقيق العزل السياسي المرتبط بالعدالة الانتقالية ليس بالأمر السهل، لاسيما في ظل مجتمع تم إقصاء -أو إضعاف- مؤسساته على مدى سنوات من القهر السياسي، وفي إطار أمن منقوص وتيارات سياسية واجتماعية منقسمة، وموارد مستنزفة، يستلزم الأمر عدة متطلبات على رأسها الإرادة السياسية التي تمثل المحرك الأساسي لمنظومة العدالة، فإن لم تتوفر الإرادة السياسية لن يتم تفعيل القوانين والقرارات الجديدة أو سيتم استخدامها لكبح جماح المعارضة السياسية، مما يعني إعادة إنتاج النظام السابق.
ويؤكد الكثير على سيادة القانون واستقلال السلطة القضائية، وضرورة توخي الحذر عند إقرار قوانين خاصة بمعاقبة النظام السابق حتى لا يتسبب ذلك في زيادة قوة ترسانة القوانين الاستبدادية المعرقلة للحياة الديمقراطية، وذلك عن طريق البعد عن القوانين الاستثنائية التي تخل بمعايير العدالة الجنائية، فالغرض من تطبيق منهج العزل السياسي ليس الانتقام من النظام السابق بل الوقوف على حقيقة إدارة هذا النظام وتحديد الضحايا من أجل إعادة الاعتبار لهم، في إطار هدف أوسع وهو الوصول إلى العدل.
مؤيدون ومعارضون أثارت الدعوات إلى تطبيق قانون العزل السياسي جدلاً واسعاً في الربيع العربي، خصوصاً وأنه في حالة تطبيق هذا القانون ستتسع قاعدة المتضرّرين لتطول الكثير من الشخصيات التي قد ترتبط بالسلطة الحاكمة حتى بعد الربيع العربي.
ويري البعض أنه من المفترض أن يكون الحسم عبر القنوات الديمقراطية أي ل (صناديق الاقتراع). وليس باختلاق قوانين اقصائية وانتقائية يفصلها الحزب الحاكم على مقاسه، غير أنه ما من تفسير لانتشار هذه الحُمى "الإقصائية" إلا كونها جزء من إستراتيجية إطالة عمر الفوضى والانقسام والاقتتال الداخلي في الدول التي اجتاحها تسونامي التغيير .
وعلي هذا يكون من الطبيعي اللجوء للقضاء لاسترداد الحقوق والمظالم ومحاسبة واستبعاد كل من ارتكب جرماً بحق الوطن والعباد تلقائياً، وبدون كل هذا الجدل العقيم.
ولأنه من أبسط أبجديات حقوق الإنسان، ليس لأحد الحق في أن يقوم بإقصاء أي مواطن بسبب توجهه السياسي والإيديولوجي، أو حرمانه من حقوق المواطنة وممارسة حقوقه السياسية.
ويعتبر البعض أن مادة العزل السياسي جاءت ركيكة للغاية ولا تحقق الأهداف منها، خصوصا أنها لم تعزل رجال النظام السابق من تقلد المناصب الهامة في الدولة ولم تعزل الأحزاب التي كان النظام السابق يستخدمها في رسم الشكل الواهم للدولة.
وفي مصر أثارت المادة (232) من الدستور الجديد جدلاً دستورياً وسياسياً واسعاً، إذ تنص على حرمان قيادات الحزب الوطني المنحل الذي كان يرأسه الرئيس السابق حسني مبارك من ممارسة العمل السياسي والترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة 10 سنوات، تبدأ من تاريخ إقراره.
وقد رفض الدكتور بهي الدين حسن مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، تطبيق هذه المادة التي تتعلق بحرمان الشخصيات التي انتمت إلى الحزب الوطني من المشاركة في الحياة السياسية بهذا الشكل، في ظل عدم تحديد المعايير الموضوعية التي يتم على إثرها تطبيق العزل السياسي، والتي يجب أن تكون أحكاماً ذات علاقة بالممارسات التي ارتكبها هذا العضو في التأثير السلبي على الحياة السياسية، واستغلال المنصب في تحقيق أغراض خاصة ومنفعة أيضاً وليس لمجرد الانتماء السياسي إلى حزب دون غيره.
وقال الدكتور مصطفى الفقي، المفكر السياسي، إن قانون العزل السياسي الذي يطرحه تيار ما لحرمان آخرين من الدخول بالمنافسة السياسية يكاد يحرم مصر من أفضل أبنائها لأنه يجلب أشخاصاً بعينهم نتيجة لوجود التزام عقائدي نحوهم وليس بناءً على معيار الكفاءة العملية أو التأهيل المناسب لشغل مثل تلك المناصب الحساسة.
وأوضح الفقيه الدستوري شوقي السيد أن "العزل السياسي هو عبارة عن عقوبة، والدستور الجديد نص في باب السلطة القضائية، على أنه لا عقوبة إلا من خلال حكم قضائي، وبالتالي أصبح هناك تناقض واضح بين مادتين في الدستور، ستتولى المحكمة الدستورية العليا إزالته".
وفي المقابل، قال محمد البلتاجي القيادي بحزب الحرية والعدالة إن الغاية التي تداركها واضعو الدستور من مادة "العزل السياسي" هي عودة عدد كبير من أعضاء الوطني السابق، وخاصة ممن كانت لهم مصالح وصفقات للصمت على ممارسات النظام السابق، إلى أن قامت الثورة التي أسقطته، لنفاجأ بعودتهم متحدثين بلسان حال الديمقراطية والشعب وحقوقه التي طالما انتهكت على أيدي رجال هذا النظام.
واستعرض عصام سلطان - نائب رئيس حزب الوسط - ما وصفه بالتناقض في قرارات المحكمة الدستورية العليا، وذلك في رفضها قانون العزل السياسي وموافقتها بعد 8 أشهر على حرمان المواطن من مزاولة حقوقه السياسية في حال عدم تأديته الخدمة العسكرية.
وفي ليبيا أثارت الدعوات إلى تطبيق قانون العزل السياسي جدلاً واسعاً، خصوصاً وأنه في حالة تطبيق هذا القانون سيكون أول المتضرّرين بعض من أعضاء المؤتمر الوطني، وعلى رأسهم محمود جبريل رئيس تحالف القوى الوطنية، الحاصل على 39 مقعداً من مقاعد المؤتمر.
وتباينت ردود الأفعال حول هذا القانون، ما بين مؤيّد يرى أن ليبيا الجديدة يجب أن تقصي كل من تعامل مع نظام القذّافي، ومعارض يرى أن تطبيقه سيزيد في حالة الاحتقان والخلافات على الساحة السياسية في البلاد.
وبرؤية مختلفة، اعتبر بعضهم أن تطبيق هذا القانون محاولة من جماعة «الإخوان المسلمين» في ليبيا لتصدّر المشهد السياسي بإقصاء المنافس الأقوى لهم محمود جبريل، والذي شكّل هو وتحالفه حائط صدّ منعهم من استكمال سيطرة «الإخوان» على دول الربيع العربي، بعدما اختار الشعب الليبي تحالف القوى الوطنية برئاسة جبريل، مستبعداً حزب «الإخوان» في انتخابات المؤتمر الوطني.
وقال مصدر ليبي، إن «الإخوان» في ليبيا يدعمون تطبيق هذا القانون، مستهدفين محمود جبريل، خصوصاً وأن مسودة القانون تنصّ على إقصاء كل من عمل في عهد القذّافي، كسفير لأي جهة خارجية، ومجموعة معيّنة، وهو ما أشارت إليه أيضاً بعض القنوات الليبية.
في حين انتقد رئيس المرصد الليبي لحقوق الإنسان ناصر الهواري، الدعوات التي تنادي بتطبيق القانون، وقال "إنه إذا كنا نسعى وبحق لتأسيس دولة القانون في ليبيا الجديدة بعد عقود طويلة من الظلم والاستبداد، فما علينا إلا الأخذ بالقاعدة القانونية المستقرّة دولياً، بأنه لا عقوبة من دون جريمة مثبتة بالأدلّة والبراهين. واعتبر أن قانون العزل السياسي، الذي يطالب بعضهم بتطبيقه، يحرم من يطبّق عليه من أبسط حقوقه الدستورية، وهو حق التحقيق معه قبل إصدار أية عقوبات جزائية ضده، إضافة إلى كون هذا القانون انتقائياً وانتقامياً، حيث يعاقب بالعزل السياسي لمن شغلوا بعض المناصب السياسية إبان النظام البائد بصورة انتقائية، بما يخلّ بمبدأ المساواة الذي نسعى لتضمينه في ليبيا الجديدة. وأشار إلى أن تطبيق هذا القانون، ربما يزيد في حدّة الاحتقان الداخلي وتقليص مساحة التسامح بين الليبيين" .
أما الحقوقي عبد السلام المسماري، فيقول إن قانون العزل السياسي وقانون هيئة النزاهة والوطنية ومثيلاتها، هي قوانين ينظمها فكر إقصائي يحاول إعادة إنتاج نظام سياسي شمولي بإطلاق عناوين برّاقة لمشاريع قوانين. ويصف هذه العناوين بأنها "كلمة حق يراد بها باطل".
إلا أن بشير الكبتي، أحد قادة «الإخوان» في ليبيا، أكد أن الجماعة لم تفكّر ولم تبحث فكرة مشروع العزل السياسي داخل الجماعة. وأشار إلى أن المؤتمر الوطني، والمنبثق من إرادة واختيار كل الليبيين ديمقراطياً، هو الجهة المسئولة، وهو من يملك شريعة تبنّي هذه القرارات.
ويرى الكاتب إسماعيل القريتلي، أن "العزل السياسي ليس اجتثاثاً، كما يتصوّر البعض، بل هو تسهيل التحوّل والتغيّر الاجتماعي الناتج ضرورة من الثورة المسلّحة".
تداعيات وأصداء ووقوفاً على تداعيات هذا الجدل خلصت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الدولية لحقوق الإنسان، في التقرير العالمي 2013، إلى نتيجة مفادها أن الأنظمة التي انبثقت عن الربيع العربي تشهد توترات سياسية يصعب في ظلها "استبدال أنظمة قمعية بديمقراطيات تحترم حقوق الإنسان"، مشيرة إلى أن مشروع "قانون العزل السياسي" المعروض على المجلس الوطني التأسيسي في تونس يمثل "خرقاً للمعايير الدولية" لأنه سوف يحرم آلاف الأشخاص من أحد حقوقهم الأساسية.
وقال كينيث روث المدير التنفيذي للمنظمة: "يتبين في نهاية الأمر أن سقوط الأنظمة الديكتاتورية لربما كان الجزء الأسهل" من الانتفاضات التي أسقطت أنظمة متسلطة في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لكن الأصعب هو استبدال أنظمة قمعية بديمقراطيات تحترم حقوق الإنسان"، وشددت المنظمة على أن إقامة ديمقراطيات فعلية تحترم حقوق الإنسان يمر أيضاً بتشكيل مؤسسات حكومية فعالة ومحاكم مستقلة وشرطة مؤهلة.
ولعل أشهر مثال على عمق جدل العزل السياسي ما حدث بشأن إعادة لجنة الانتخابات الرئاسية أحمد شفيق آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس حسني مبارك، إلى السباق الرئاسي في مصر بعدما قبلت تظلمه من قرار الاستبعاد الذي استند لقانون العزل السياسي، يأتي ذلك بعدما قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بعدم دستورية ذلك القانون.
وفي رد فعل منها قدمت الكنائس المصرية بمختف طوائفها مذكرة للرئاسة المصرية تطالب بتعديل مواد بالدستور الذي أقر الشهر الماضي، أبرزها إلغاء مادة العزل السياسي لقيادات الحزب الوطني المنحل.
ومثل القرار بعدم دستورية قانون العزل السياسي في مصر قُبلة الحياة لأعضاء الحزب الوطني المنحل، وأشار حيدر بغدادي (وكيل مؤسسي تحالف نواب الشعب) إلى أن عدم دستورية قانون العزل السياسي يأتي في إطار المصالحة الوطنية بين النظام القائم ممثلاً في الإخوان وأعضاء الحزب الوطني السابقين، وقال إن التحالف سيدفع بما لا يقل عن 200 مرشح في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
السيناريوهات المستقبلية ويمكن القول إنه على إثر هذا الجدل ضاعت القناعة لدى الكثيرين من أبناء الربيع العربي أو من خارجه بمدى وجود إرادة سياسية حقيقية لإحداث قطيعة مع ممارسات الماضي أو محاسبة رموز النظام بشكل جدي عن الجرائم التي ارتكبوها، بل يمكن القول إن كافة الإجراءات التي اتخذت بعد سقوط الأنظمة السابقة هي مجرد خطوات مبتورة هدفها تسكين الضغط الشعبي من أجل العدالة والإنصاف، كما يعتقد هؤلاء. فمنهج العدالة الانتقالية المنشودة من وراء تطبيق العزل السياسي لا يستقيم في مجموعة من الإجراءات المنفصلة عن بعضها البعض، إذ لا يتم فصل عملية العزل السياسي وهي عملية قضائية بحتة عن عملية المحاكمات، عن عملية التعويضات، عن عملية إعادة إصلاح الأجهزة الأمنية، عن عملية تقصي الحقائق عن الجرائم التي ارتكبتها تلك الأنظمة.
كما يرى البعض أننا بصدد حالة من ازدواجية المعايير والأحكام المتعمدة نتيجة وجود علامات استفهام كثيرة يستحيل معها في الوقت الراهن تطبيق ما يعرف بالعزل السياسي.