طرحنا في مقالنا بعنوان إعادة بناء الاستراتيجية المائية المصرية في24 نوفمبر الماضي إعادة بناء الدولة المصرية كمنظور طويل الأجل لحماية الأمن القومي المصري. وبالنظر إلي تكوين الدولة في القانون الدولي من إقليم وشعب وسلطة, وإلي العلاقة التفاعلية الهيراركية بين تلك المكونات الثلاثة, فإن إعادة بناء الدولة تبدأ بالسلطة لينجزها الشعب فيثمرها الإقليم. واتساقا مع تقسيم علم السياسة للسلطة إلي ثلاثة أفرع: تشريعية وتنفيذية وقضائية, ينبغي التطور من مبدأ الفصل إلي مبدأ الرقابة والتوازن بين السلطات, فيشرع البرلمان القوانين للسلطات كافة, وتنفذها الحكومة علي السلطات كافة, ويحكم بها القضاء علي السلطات كافة. ويقتضي ذلك تطوير البرلمان من ساحة لممارسة الخطابة إلي مركز لصناعة القرار من خلال دوره التشريعي والرقابي وباعتباره القابض علي حافظة نقود الدولة, ما يستوجب بداهة الارتقاء بأهلية أعضاء البرلمان من سياسيين إلي مشرعين باشتراط حصولهم علي مؤهلات جامعية, بما يزودهم علي الأقل بالحد الأدني من مقومات الدفاع عن مصالح الشعب بمختلف فئاته. كما يجدر التحول إلي نظام الانتخاب بالقوائم لتعزيز الممارسة الحزبية والتنافسية البرامجية بدلا من سيطرة رأس المال السياسي والاعتبارات الفئوية المصاحبة عادة للنظام الفردي. ويمكن إجمال إعادة بناء الحكومة في شقين: سياسي من خلال التداول السلمي الحقيقي للسلطة بحيث يختار الشعب حكامه وتحترم البيروقراطية هذا الاختيار, وهيكلي من خلال ترسيخ المؤسسية ولامركزية صنع القرار ومكافحة الفساد وترشيد النفقات وعدم احتكار الخبرات, ودمج عدد من الوزارات والهيئات في كيانات أكبر, بما ييسر صنع القرار وتبادل المعلومات. ويحتاج القضاء إلي مزيد من ثقة الشعب, بدءا باختيار أعضاء النيابة علي أساس التفوق الدراسي, وتطبيق نظام للترقي والنقل يقوم علي منظومة اختبارات تراعي معايير النزاهة والانضباط والكفاءة والإسهام الأكاديمي وغيرها, مرورا بالالتزام بالقوانين التي يسنها البرلمان والنأي عن لعبة السياسة والمال, وليس انتهاء بتحقيق العدالة الناجزة التي لا تفتأ تعيد الحقوق إلي أصحابها وتحمل الضال علي جادة الصواب. وتكمن إعادة بناء الشعب المصري في إيجاد مشروع قومي, يؤلف قلوب المصريين ويضمن رفع مستوي الإنسان بتوفير احتياجاته المسلوية وتفريغ طاقاته الإبداعية, وتشجيع طموحات المواطنين واعتبار إجمالي تميزهم الشخصي إضافة لتقدم الدولة وليس متعارضا معه, وتحديث المجتمع بالمزاوجة بين قيم الأسرة المصرية الأصيلة وقيم الاعتماد الذاتي الواردة, وتوسيع الطبقة الوسطي باعتبارها عماد استقرار المجتمع. وفي هذا السياق, يبرز التعليم بلا منازع كمفتاح تقدم الأمة, ما يستلزم توافر ثلاثة عناصر فيه وهي الإلزامية والمجانية والجودة; ليؤتي التعليم ثماره الاقتصادية من زيادة التنافسية وتعظيم الإنتاجية نوعا وكما, وثماره الاجتماعية من عودة السلوك الراقي والتسامح الفئوي والسلم الأهلي, وثماره السياسية من الالتزام بالديمقراطية واحترام التعددية وحماية حقوق الإنسان. وتتلخص إعادة بناء الإقليم المصري في جعله قابلا للحياة فيه وفق المعايير العالمية للأمن الإنساني والرفاه الاقتصادي, وهو ما يقتضي إعادة بناء المنظومة الأمنية المصرية لحماية أمن الوطن والمجتمع والفرد, ما يعني بالضرورة الالتزام بحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وتحقيق نمو اقتصادي تصاحبه عدالة توزيع تضمن ترجمته إلي تنمية اجتماعية. وفي هذا الإطار, تفرض الصناعة نفسها كأساس لقوة الدولة; كونها القاعدة التي تقوم عليها القوتان الاقتصادية والعسكرية, وبالتبعية سائر أوجه قوة الدولة, فضلا عن احتوائها للبطالة. ثم يأتي الجيش باعتباره العمود الفقري للدولة المصرية منذ نشأتها, بتصديه للغزاة وحيلولته دون انهيار الدولة, ما يفرض تحديثه وتعضيده بظهير شعبي بتجنيبه دهاليز السياسة وبريق المال وتطوير وتنويع تسليحه وتدريبه. وتعد الدبلوماسية المصرية خط التماس الأول للأمن القومي المصر, ما يحتم حسن انتقاء أفضل العناصر للالتحاق بالسلك الدبلوماسي والاستثمار فيها عبر الدورات التدريبية والدراسات العليا والتحفيز المستمر بشتي السبل; باعتبار المورد البشري قوام العمل الدبلوماسي مقارنة بقطاعات أخري كالطاقة والصناعة مثلا والتي تقوم علي موارد مادية بالأساس. كما يتعين زيادة الاهتمام بملفات الحوكمة الكونية التي غدت تؤثر في حياة الناس, مثل نزع السلاح وتحرير التجارة وتبادل الاسثمارات والتنمية المستدامة والتغير المناخي. ويشكل المصريون في الخارج قوة إضافية لمصر إذا ما أحسن استثمارها, فهم من أداروا عجلة النهضة التي شهدها جوار مصر الإقليمي, وللأسف يتهمون اليوم بكونهم جسرا للأفكار المتشددة, ما يضيف لغربتهم المادية غربة وجدانية داخل وطنهم, رغم أنهم طاقة كامنة يمكن لمصر توظيفها سياسيا. وتحتضن مصر اثنتين من أعظم المؤسسات الدينية في العالم, وهما الجامع الأزهر مرجع الإسلام السني والكنيسة القبطية مرجع المسيحية الأرثوذكسية, وكلاهما يشكل الرافد الأغزر للقوة الناعمة المصرية; بالنظر إلي تعداد أهل السنة والجماعة والأرثوذكس في أرجاء العالم, ما يظل مرتهنا بتوفر الاستقلالية التامة لهاتين المؤسستين بما يعيد احترامهما داخل وخارج دوائر تأثيرهما. وتبرز الثقافة والإعلام باعتبارهما أوسع قنوات القوة الناعمة لمصر, والتي وهنت بانسداد تلك القناة; نتيجة عجزها عن تسويق الحلم المصري الملهم لمحيطه الإقليمي مع صعود ثقافة العشوائية المحلية والتقائها بالإباحية الواردة, ليغدو المنتج الإعلامي مادة للإثارة الأخلاقية والسياسية التي تؤجج العنف والفوضي. وانطلاقا من ذلك, تكمن إعادة بناء الثقافة والإعلام في الالتزام بالمعايير الدولية لحرية التعبير, والتي تقيدها باعتبارات حماية الصحة والآداب ومنع الجريمة في المجتمعات الديمقراطية. وإذا ما قيضت لمصر خطة لتنمية كافة هذه المحاور, فستكون حجر الأساس لإعادة بناء الوطن المصري كمجتمع متحضر ودولة متقدمة من خلال تطوير مناح أخري شتي يضيق المقام عن تناولها. لمزيد من مقالات محمد بيلي العليمي