ماحدث في30 يونيو هو فصل جديد من فصول25 يناير, لكنه ليس الأخير; فسوف تتلوه فصول أخري حتي تكتمل هذه الثورة المجيدة, سوف تتلوه فصول أخري ليس بالضرورة علي نفس الشاكلة, ولكنها باليقين لن تكون أقل دراماتيكية عما سبق أن شهدناه في غضون الفترة السابقة. سوف أوضح ذلك بعد قراءة المشهد, إذ تباينت فيه الآراء; فهناك من اعتبره ثورة وهناك من عده انقلابا. والحقيقة أنه ثورة مالم يثبت العكس.. هو ثورة لأكثر من سبب: أولا: ما قام به الجيش لم يكن إلا إنفاذا لإرادة شعبية باتت مسكوبة علي الأرض في الشوارع والميادين, وكان لابد من ترجمة واقع هذه الإرادة إلي وقائع عملية. وثانيا: أن الجيش لم يستول علي السلطة ولم يتولاها. وثالثا: أن تحرك الجيش جاء من منطلق وطني- لا سياسي, وظل تحركه مقصورا علي هذه المساحة ولم يتطرق إلي دائرة السياسة التي لم تكن دافعه, وأظن أنه سيبقي كذلك. من زاوية أخري يمكن رؤية ماحدث علي أنه من قبيل ممارسة الجيش لدوره في حماية الأمن القومي للبلاد, وفعلا إذا استعدنا المشهد فسوف ندرك أن أمن البلاد كان علي حافة الهاوية حيث استحكمت حلقات الأزمة, وكان إنقاذ الوطن والسلم الأهلي في هذه الحالة مقدما علي أي اعتبار, بل كان هدفا تجوز التضحية من أجله. إلي هذا الحد هي ثورة, لكن هناك ممارسات قد تفرض تغييرا في تكييف الحالة, وهذا هو ما أقصده بعبارة مالم يثبت العكس... أشير إلي ثلاثة احتمالات غير مرغوبة; الأول: أن يزاول الجيش العمل السياسي من خلف الستار بعد أن وضع مدنيين في واجهة السلطة, وأشكال هذه الممارسة- إن حدثت- عديدة ومتعددة كما يسجلها تاريخ التدخل العسكري في السلطة في بلدان كثيرة, ولكنها متجددة أيضا بحيث يمكن ابتكار أساليب غير مسبوقة في ممارسة السلطة من بعيد أو التأثير علي صنع القرار. والواقع أن المسألة في غاية الحساسية نظرا لأن الجيش مكلف بحماية العملية السياسية وتأمينها, وبين حمايتها والانخراط فيها شعرة دقيقة. وباختصار فإذا انزلقت قدم الجيش في مستنقع السياسة فسوف يكتب التاريخ أن ماحدث كان انقلابا وليس ثورة, وعموما ليس لدينا وسيلة لقياس حيادية الجيش غير الثقة فيه. الاحتمال الثاني الذي يجعل ما حدث انقلابا هو أن يبتعد المسار السياسي في المرحلة الانتقالية الحالية عن أهداف الثورة ومطالب الجماهير, وهي واضحة ومعروفة. أما الاحتمال الثالث فهو أن يتكيء الجيش علي حجة حماية الأمن القومي ويتخذها ذريعة لتكرار التدخل, خصوصا في ظل عجز سياسي من جانب مختلف القوي نراه ماثلا أمامنا الآن. صحيح أن حماية أمن البلاد منوط أمرها بالجيش; لكن ذلك لايعني أن يساء تقدير الموقف وأن يكون أمننا القومي مهددا في كل وقت وأن يتم ابتذال هذه القيمة التي نعتز بها. في قراءة المشهد أسجل إنجازين علي قدر كبير من الأهمية; أولهما أن تنجح الإرادة الشعبية في عزل رئيس منتخب قبل أن يكمل مدته القانونية, هذه التي يعتبرها البعض انقلابا علي الشرعية الدستورية. والحقيقة أنه إذا كانت الإرادة الشعبية وراء عزل الرئيس- وأظنها كذلك- فذلك قمة الديمقراطية وأنصع ممارسة فيها; فإرادة الشعب تعلو ولايعلي عليها, وعندما تتدفق هذه الإرادة هادرة في الميادين فهي أصدق من كل صناديق الانتخاب; فالميدان يطرح الإرادة الشعبية كماهي, كما ولدتها أمها- إن صح التعبير- والصندوق يقدمها لنا بعد عمليات من المونتاج والإخراج. إنها آخر صيحة في عالم الديمقراطية يرسلها شباب مصر إلي العالم. الإنجاز الثاني هو حسم العلاقة المضطربة بين الشرعية والمشروعية لصالح الأولي. والشرعية هي رضا الناس بما يجري أو عما يجري, والمشروعية هي التوافق مع القانون... في ضوء هذه التعريفات تمثلت أزمة المرحلة الانتقالية منذ سقوط نظام مبارك وحتي30 يونيو في ذلك الصدام أو التناقض أو الانفصام بين الشرعية والمشروعية, يصدق ذلك علي أغلب خطوات المرحلة الانتقالية المتعثرة; فماكان منها متوافقا مع القانون كان يفتقد الشرعية, وما حظي منها بالشرعية افتقر إلي السند القانوني( يصدق علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة وعلي اللجنة التأسيسية وعلي مجلس الشوري كمجرد أمثلة). هذه المتناقضة حسمتها ثورة30 يونيو لصالح الشرعية الثورية, وإن يكن البعض يتحدث عن الشرعية الدستورية فذلك من قبيل الخطأ; ففي غضون ثورة لامجال للحديث عن ألوان أخري من الشرعية, وبعبارة أخري في حالة الثورة تظل إرادة الشعب الثائر هي المجري الوحيد لنهر الشرعية, ومن ثم فالحديث عن شرعية الصندوق أو شرعية دستورية ليس له مكان مادامت الشرعية الثورية قائمة; فهذه الأخيرة كالماء وغيرها من أشكال الشرعية هي التيمم, وإذا وجد الماء بطل التيمم. هذا من ناحية, ومن ناحية أخري فإن الشرعية لا يمكن اقتناصها أو خطفها مرة واحدة والاحتفاظ بها دوما; بمعني أن من حظي بالشرعية من خلال مسلك قانوني لاينبغي أن يدعيها إلي الأبد ولا يصح أن يفصلها عن جذورها ومصادرها ويتشبث بها; إذ تظل تستقي أسس بقائها من هذه الجذور التي تتمثل في إرادة الشعب. المهم أن هذه المتناقضة حسمتها ثورة30 يونيو لصالح الشرعية الثورية, وما لم نحافظ علي هذا الحسم فسوف ترتبك المرحلة الانتقالية الحالية. ولعل مناط الحفاظ المقصود هو أن تفسر القوانين بمافيها الإعلان الدستوري- عندما يلحق بها الغموض أو تتعدد تفسيراتها أو تتناقض- لصالح الشرعية الثورية. ثمة مخاوف مشروعة تجعل المراقب يتوقع فصولا دراماتيكية أخري حتي تكتمل الثورة; منها أن تسود روح الانتقام من الإخوان المسلمين وأن تتخذ ضد قياداتهم اجراءات قمعية وبهمة عالية لم نعرفها ضد نظام مبارك, أو أن يتم استبعادهم أو استبعاد أي فصيل من العملية السياسية. ومنها أن يستغل الفلول- من نظام مبارك- الموقف أو تعطي لهم الفرصة لمعاودة الظهور مرة أخري وركوب موجة الثورة. ومنها أن نخفق في تخطيط المرحلة الانتقالية الجديدة... لمزيد من مقالات د.صلاح سالم زرنوقة