أثبت العديد من الملابسات, خصوصا تلك المتعلقة بوقائع اغتيال العسكريين الستة عشر قبل نحو عام, واختطاف الجنود السبعة قبل نحو شهر, واغتيال الضابط محمد أبو شقرة المعني بملف الخاطفين قبل أسبوعين, أن نظام حكم جماعة الإخوان المسلمين, غير حازم في مواجهة الإرهاب, بل صار يشكل ثغرة في الإجماع ضده, ويا لها من ثغرة تقع في القلب من مؤسسات الدولة الأمنية والسيادية, التي صارت تتستر علي الجهاديين في سيناء وغيرها من أنحاء مصر. بل إن رأس السلطة نفسه صار يدعو مباشرة إلي الجهاد في سوريا, متغافلا عن دوره كرجل دولة, ومتناسيا وبال تجربة الجهاد في أفغانستان وارتداداتها علي مصر نفسها رغم نأي الدولة آنذاك عن التورط فيها. وأما قرار تعيين أحد الجهاديين المشتبه في ارتكابهم حادثة الأقصر والتي راح ضحيتها58 سائحا عام1997, محافظا للمدينة نفسها, فلا يعدو أن يكون تحديا سافرا لمشاعر الناس, وتواطؤا كاملا مع الإرهاب. لقد عانت مصر مرارا, خصوصا في ثلث القرن الأخير, من موجات تطرف ديني تبعتها موجات إرهاب سياسي, خصوصا في عقدين أساسيين: أولهما عقد السبعينيات, الذي انتهي باغتيال الرئيس المصري أنور السادات علي أيدي تيارات تكفيرية استغلت هامش العمل المتزايد أمامها بفعل تساهل الدولة معها, وفي القلب منها جماعة الإخوان التي حاول السادات توظيفها لضرب القوي السياسية المناوئة لتوجهاته الاقتصادية الجديدة خصوصا الناصرية واليسارية التي رأت في هذه التوجهات تفكيكا لمشروع الدولة الناصرية بأبعاده الاجتماعية ونزوعاته الوطنية التحررية, وأنماط تحالفاته الإقليمية, وانحيازاته في العلاقات الدولية. وثانيهما عقد التسعينيات الذي عاشته مصر علي وقع عنف سياسي متواصل, وحوادث إرهابية متكررة, لم تتراجع إلا بعد مذبحة الأقصر في ديسمبر عام1997, وبفعلها حدث نوع من الاستقطاب الشديد أدي إلي انغلاق أفق التطور السياسي, ووقوع المصريين في فخ الاختيار, الذي تم الترويج له باعتباره قدرا, بين طرفي الاستبداد التطرف, فإما الرضا بنظام حكم متسلط, وإما الخضوع للتطرف الديني. لم يكن ثمة حوار بين الطرفين بل ردود أفعال عنيفة تقوم علي الإنكار والإقصاء. عمليا كانت السلطة المستبدة هي الأقدر علي الإقصاء, ونظريا كانت التيارات المتطرفة هي الأعنف في الإقصاء, إذ تجاوزت إنكار النظام الحاكم إلي تكفير المجتمع المحكوم, ولم يكن ثمة قيد عليها سوي غياب التمكين. مع ثورة25 يناير كان مفترضا أن يتم تفكيك هذه الثنائية الصلبة, وأن يدخل تيار السلفية الجهادية طور الذبول, إما لأن كتلته الأساسية كانت قد انزاحت, قبل الثورة, إلي خارج المجتمعات العربية لتلعب أدوارا أوسع بدعوي( عالمية الجهاد). وإما لأن بعض أبرز مكوناته من قبيل الجماعة الإسلامية, قد دخل إلي حلبة السياسة. وهو ما ينطبق أيضا علي باقي مكونات التيار السلفي( التقليدي) والتي أسست أحزابا وخاضت غمار السياسة التي كانت قد أدانتها طويلا وبشدة, فطالما فتحت أبواب السياسة أمام جميع التيارات بعد طول إقصاء, كان واجبا أن تزداد اعتدالا, وانخراطا في النظام القائم. ناهيك بالطبع عن جماعة الإخوان المنشغلة بالسياسة منذ البداية رغم حظرها. غير أن المفارقة الكبري التي نعيشها الآن أن العكس هو ما يحدث وتجري وقائعه علي الأرض, إذ ينمو التطرف في كل مصر, ويسيطر الإرهاب علي كل سيناء, وهو تطور يعاكس المنطق الصحيح للأمور, يمكن تفسيره بدافعين رئيسيين: الدافع الأول: هو الرسائل التي وجهها الرئيس محمد مرسي بمجرد وصوله للسلطة, إلي المنتمين للجماعات الجهادية, عندما أخرج بعض منتسبيها من السجون بعفو رئاسي لمجرد أن من قام بسجنهم هو النظام السابق, وكأن الإرهاب محرم في عصر ونظام, وجائز في عصر ونظام آخرين, وهو السلوك الذي اثار مطامع هذه الجماعات وحفز غرائزها السياسية, وزاد جرأتها حتي في مواجهة الجيش, وكما أن واقعة اغتيال الستة عشر جنديا وضابطا لم تكن الأولي, فإن واقعة اختطاف الجنود السبعة لن تكون الأخيرة. والثاني هو أن جماعة الإخوان لم تلعب الدور المرجو منها في إدارة عملية التحول من نظام أحادي قمعي إلي نظام تعددي يتسع للجميع, وهو أمر شاق يتم عبر جدل ثقافي عميق, وتنازلات سياسية كبيرة, يفترض أن يؤديا معا إلي عملية فرز تاريخي كبري تشتمل علي عمليات فرعية صغري من الدمج والحذف, الاستيعاب والاستبعاد, تدمج التيارات الأكثر عقلانية في النظام السياسي, وتحاصر التيارات الأكثر تطرفا وعجزا عن التكيف مع متطلبات المرحلة. ونتيجة لتقصيرها في ممارسة دورها أصبحنا أمام ثلاث دوائر من الإسلام السياسي: أولاها في الحكم فعلا, ممثلة في جماعة الإخوان ذاتها. وثانيتها السلفيون الجهاديون المتورطون في الإرهاب. أما الثالثة فتتمثل في خليط من السلفيين المنهمكين في السياسة من داخل أبنية شرعية, ومؤسسات حزبية, والموزعين بين اعتدال البعض كحزب النور وتشدد البعض الآخر إلي درجة يحاول معها تقديم غطاء فكري للإرهاب, ما يعني أن مصر تواجه إرهابا اليوم علي أرضية انقسام سياسي, وكذلك واستقطاب ثقافي يزيد من صعوبة فرز العدو من الصديق, ويجعل للنصر والهزيمة تعريفات هشه وغامضة, تثير الشك والعجز وتستعصي علي اليقين والحسم, وهنا تكمن المأساة الحقيقية, فالإجماع الوطني في مواجة الإرهاب هو القاعدة الأساسية لأي حرب ظافرة معه, ومن دونه لا يكون للمعركة معه نهاية, لأنه لا معني لها من الأصل. ترنو الجماعة من تواطؤها مع الإرهاب إلي حصد غنائم مباشرة, تحكمها حسابات قصيرة النظر, لا تعدو أن تكون كغنائم أحد التي أودت بالمسلمين إلي الهزيمة, وكادت تودي بحياة نبينا الكريم( صلي الله عليه وسلم), متغافلة عن حقيقة أن الإرهاب يشبه ماردا لا يمكن ترويضه أو توظيفه, وأنه سيذهب بالجميع إلي مناطق غير مأهولة, ويفرض عليهم خيارات غير معقولة, إلي درجة تضطرها إلي محاربته في النهاية, ولكن بثمن فادح لن تدفعه وحدها, بل يتحمله المصريون معها, عقابا لهم علي ثورتهم التي أخرجوا بها قادة الجماعة من غياهب السجون, ودفعوا بهم إلي سدة الحكم, وهو أمر يفسر لماذا يسعون الآن لإخراجهم منه. www.salahmsalem.com لمزيد من مقالات صلاح سالم