مثل الإستقطاب بين طرفي ثنائية السلطوية الإسلاموية أو الاستبداد التطرف إحدي السمات الأساسية للواقع العربي المصري في النصف الثاني للقرن العشرين, فإما الرضا بنظم حكم متسلطة, وإما الخضوع لتطرف سياسي يدعي الإسلامية. لم يكن ثمة حوار أو جدل بل ردود أفعال عنيفة متبادلة, تقوم علي الإنكار والإقصاء. عمليا كانت السلطات المستبدة هي الأقدر علي الإقصاء, ونظريا كانت التيارات المتطرفة هي الأعنف في الإقصاء, إذ تجاوزت إنكار النظم الحاكمة إلي تكفير المجتمعات المحكومة, ولم يكن ثمة قيد عليها سوي غياب التمكين. كان ذلك الخطاب رائجا في مصر, كما كان في تونس والأردن, واليمن, وسوريا. أما في الجزائر فقد تحول الخطاب إلي ممارسة فعلية علي الأرض مطلع التسعينيات, حيث أدي فشل السلطة العلمانية المزمن( جبهة التحرير الوطني) إلي صعود الإسلام الراديكالي علي جثته( جبهة الإنقاذ) عبر انتخابات, انقلب عليها العسكر, فكانت حربا شبه أهلية دفع الجزائريون أثمانها البشرية والمادية لعشر سنوات تقريبا, وقد حدث ما يقاربه ولو نسبيا في مصر التي عاشت طيلة التسعينيات علي وقع عنف سياسي متواصل, وحوادث إرهاب متكرر, لم تتراجع إلا بعد مذبحة الأقصر في ديسمبر عام.1997 مع عاصفة الربيع العربي, كان مفترضا تفكيك هذه الثنائية الصلبة, حيث سقطت النظم الأكثر استبدادا, وثمة نظم أخري في الطريق. وفي المقابل كان مفترضا أن تدخل السلفية الجهادية طور الذبول, إما لأن كتلتها الأساسية كانت قد انزاحت, قبل هبوب العاصفة, إلي خارج المجتمعات العربية لتلعب أدوارا أوسع بدعوي( عالمية الجهاد), وإما لأن بعض أبرز مكوناتها من قبيل الجماعة الإسلامية, قد دخلت إلي حلبة السياسة, التي طالما أدانتها بشدة, فطالما فتحت أبواب السياسة أمامها بعد طول إقصاء, كان واجبا أن تزداد اعتدالا, وانخراطا في النظام السياسي القائم. ولا يعني ذلك الانخراط زوال التناقض بين التيارين الديني والمدني, بل يعني فقط قدرة أكبر علي التعايش بينهما, إذ لم يعد التناقض مجمدا في ثلاجة التاريخ, وإنما دخل طور الممارسة العملية بعد زوال الخطوط الفاصلة بين ما هو داخل الشرعية وخارجها, فصار الجميع يلعبون في الفضاء نفسه, بالقوانين نفسها, وأمام الحكم ذاته, وهو هنا الجمهور العربي الذي سيدور الصراع حوله وعليه, وإن بأدوات جديدة: ثقافية وإيديولوجية وليس بالأدوات العتيقة العنيفة, والمسلحة. غير أن المفارقة الكبري التي أخذنا نعيشها الآن في مصر أن العكس هو ما يحدث وتجري وقائعه علي الأرض, ما يشي بأننا لسنا علي مشارف حقبة من الهدوء, بل مرحلة من الصراع أكثر حدة من سنوات العقد الأول للقرن العشرين, تلك السابقة علي ثورة25 يناير, وإن كانت لا تزال أقل حدة من سنوات التسعينيات, وهو أمر يبدو غير مفهوم, يعاكس المنطق الصحيح, يمكن تفسيره بدافعين رئيسيين: الدافع الأول: هو الرسائل السلبية المتوالية التي وجهها الحكم الجديد إلي المنتمين لتلك الجماعات السلفية بأطيافها المتباينة, والتي وشت بإمكانية التساهل إزاء خروجها علي قوانين الدولة, بدءا من إطلاق يد السلفية التقليدية في ممارسة تشددها وتضييقها علي الناس بدعوة الأمر بالمعروف, وصولا إلي اطلاق سراح بعض المنتسبين إلي السلفية الجهادية من السجون بعفو رئاسي لمجرد أن من قام بسجنها هو النظام السابق, وكأن الجريمة أو الإرهاب السياسي محرمان في عصر وفي ظل نظام ما, وجائزان في ظل عصر ونظام آخر, وهو السلوك الذي أدي إلي إثارة مطامع هذه الجماعات, وأذكي غرائزها السياسية, ودفعها لمحاولة فرض منطقها علي النحو الذي تبدي في سيناء بضراوة نالت من الجيش نفسه في سابقة غير معهودة, ولا يزال يتبدي أكثر وضوحا في غير مكان كما تشي بذلك الخلايا النائمة التي تم الكشف عنها داخل مدن عديدة, ورايات القاعدة التي تم رفعها في مناسبات متباينة, بما يعني تغلغل الفكر المتشدد, في موازاة تمدد بؤره الحركية. الثاني هو أن جماعة الإخوان المسلمين لم تلعب حتي الآن الدور الأساسي المنتظر منها في إدارة التحول السياسي الجاري من نظام أحادي قمعي يقصي المخالفين إلي نظام تعددي يتسع للجميع, وهو أمر شاق يتم عبر جدل ثقافي عميق, وتنازلات سياسية كبيرة, يفترض أن يؤديا معا إلي عملية فرز تاريخي كبري تشتمل علي عمليات فرعية صغري من الدمج والحذف, الاستيعاب والاستبعاد, تدمج التيارات الأكثر عقلانية وقابلية للحوار داخل الظاهرة الإسلامية, وفي الوقت نفسه حصار التيارات الأكثر تطرفا والأقل قدرة علي التكيف مع متطلبات المرحلة. والبادي حتي الآن أن الجماعة, وبدلا من القيام بضغط إيجابي علي المكون المتشدد في التيار السلفي الواسع بغرض تصفيتها وتطويع عموم التيار لمنطق التحول الديمقراطي, إنما قامت بعكس المطلوب منها, وهي المزايدة علي التيار المدني بالتيار السلفي, وتحويلة إلي فزاعة جديدة بديلة عنها تضغط به علي التيارات الأخري لقبول السقوف المتدنية التي تقوم هي بتحديدها لمدنية الدولة, خشية أن يجدوا أنفسهم في مواجهة الأكثر تشددا. ترنو الجماعة من مسلكها هذا إلي حصد غنائم قريبة لا تعدوا أن تكون كغنائم أحد, متغافلة عن أنها تزكي التشدد الديني, وتزيد من حالة الإستقطاب الثقافي, والذي تبدت أعراضه جلية لكل ذي عينين داخل الجمعية التأسيسية وحول قضية الشريعة المفتعلة, وبالأخص في قضية النائب العام التي شهدت من يتظاهر معه تكريسا لسلطة القانون الذي يرفض عزله, وبين من يتظاهر ضده إلي الآن, إصرارا علي اقتلاعه ضد المنطق الدستوري والقانوني, تلبية لمطالب ثأر غريزية من الرجل, أو من عصر مضي, من دون التفات إلي أن في ذلك تقويض لسلطة الدولة يضر بالإخوان قبل غيرهم, لأن تجربة الحكم القائمة الآن منسوبة إليهم, سيقيمهم الناس حسب مآلاتها, وقد يحاكمونهم, علي اهدار الفرصة التاريخية التي لاحت لهم من دون عمل خلاق لتجاوز الاستقطاب الثقافي, وتمتين التجانس الوطني. بل أنني أخشي علي الرئيس مرسي نفسه من مصير الرئيس أنور السادات, لأن من يطلق العفريت غالبا ما يقع ضحيته, ومن يشعل النيران ليس قادرا دوما علي إطفائها. المزيد من مقالات صلاح سالم