المشهد السياسي الراهن له دلالة واحدة هي أن النخبة السياسية والإعلامية أو من يطلق عليهم هذه التسمية جزافا ينطلقون بهذه الأمة وبسرعة جارفة إلي نفق مظلم نهايته الدفع بها إلي الانتحار لأن ما يسعون إليه من أهداف وما يطرحونه من مبررات وحيثيات لا يخرج عن دائرة العبث أو اللامعقول. فقد نصت دساتير الدول الديمقراطية علي آليات محددة لتدوال السلطة ليس فقط لتمكين الشعب من حكم نفسه بنفسه وترجمة المبدأ الدستوري القائل الشعب هو صاحب السلطة ومصدر السيادة ولكن لحماية المجتمعات من الدخول في دوامة العنف والعنف المضاد والحيلولة دون سيادة شريعة الغاب, وإذا كانت الانتخابات الحرة النزيهة هي الآلية الديمقراطية الوحيدة لوصول الحاكم للسلطة إلا أن تنحي الحاكم عن السلطة يمكن أن يتم وفقا لصور عدة أهمها أن يرتكب رئيس الجمهورية جريمة الخيانة العظمي بعد محاكمته وإدانته, كما حدث مع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الذي استقال علي خلفية فضيحة ووترجيت وجريمة الخيانة العظمي تنظمها المادة152 من الدستور المصري الحالي ويصدر فيها قرار الاتهام بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس, وتنظم المادة153 من الدستور الصورة الثانية لخلو منصب الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة وهي وجود مانع يحول دون مباشرة الرئيس لسلطاته, أما الصورة الثالثة فقد نظمتها المادة127 من الدستور وهي التي يدعو فيها الرئيس الشعب للاستفتاء علي حل مجلس النواب فإذا جاءت النتيجة برفض الشعب حل البرلمان أعفي الرئيس من منصبه احتراما للإرادة الشعبية, وما عدا ذلك ليس إلا محاولات للانقلاب علي السلطة وقفز علي الإرادة الشعبية التي جاءت بالرئيس إلي سدة الحكم وعمل غير شرعيا حتي ولو أعلن القائمون به أنه ليس كذلك, إلا أن هذا الطرح لا يفهم منه مطلقا التحايل علي الحق الشرعي للرأي العام في التعبير والحق في المعارضة والحق في التظاهر السلمي والحق في التمرد طالما كان ذلك كله سلميا. المشكلة في ارتباط التمرد بالدعوة لإسقاط النظام والإصرار علي عدم مغادرة الميدان إلا بالرحيل مما يدخله فورا في دائرة التغيير غير السلمي حتي ولو كانت شرعية أداء السلطة وإنجازها في أدني معدلاتها, فلو أن شرعية الانجاز هي معيار بقاء أو زوال السلطة الحاكمة لما استقر نظام حكم في العالم ولتحول العالم بأسره إلي فوضي عارمة لا حدود لها لأن أي مقياس لأداء أي سلطة في العالم حتي لو جاءت في ظل الظروف الطبيعية سوف ينتهي حتما إلي عدم رضا أغلبية الجمهور عنها, فما بالنا إذا كانت السلطة تحكم في ظل ظروف استثنائية انتقالية غير مستقرة, والمؤكد أن جموع المصريين لم تتحقق أحلامهم وتطلعاتهم فيما بعد الثورة, فالأزمات الاقتصادية خانقة والانفلات الأمني واضح والبطالة في ارتفاع مطرد والأزمات السياسية في الداخل والخارج أكثر تعقيدا, والإحباط يكاد يكون متمكنا ولا يمكن الإدعاء بوجود عصا سحرية للتغلب علي مثل هذه التحديات في المستقبل القريب. هذه أمور لا يمكن إنكارها إلا أن تحميل النظام الحالي وحده أوزار الوضع الراهن فيه مغالطة صارخة وقفز علي الحقيقة وتضليل للرأي العام الذي يدرك بفطرته وبدون الدخول في النماذج العلمية المعقدة لتقييم الأداء السياسي أن بعض أهداف الثورات تحتاج إلي عقود حتي تتحقق, وأن عدم تحقيق الأهداف مسئولية مشتركة لمن هم في الحكم ومن هم في المعارضة, وأن إرث الماضي لا يمكن التخلص منه في سنة واحدة, وأن حداثة العهد بالديمقراطية أحال الحرية إلي فوضي وأن سقف التطلعات لأخذ الحقوق لم يصاحبه التزام أخلاقي وقانوني بتأدية الواجبات وأن حجم التناقضات في المشهد السياسي أكبر من أن يحصي, فحقوق الشهداء مطلب ثوري تعهد به رئيس الجمهورية إلا أنه لم يتحقق وربما لن يري النور مستقبلا في ظل نظام قانوني وقضائي من صنع النظام البائد, واستمراره بدون تغيير دليل علي عدم الاعتراف بالثورة التي تعني ضمن ما تعني تأسيس نظام قانوني وقضائي جديد حيث لا يمكن للنظام أن يحاسب نفسه بأدواته ومنهجه, هو بالضرورة سوف يفلت من العقاب كما نري كل يوم, وفي كل مرة حاول فيها الرئيس الثورة علي هذا النظام بإنشاء محاكم ثورية تحقق العدالة الانتقالية أو حاولت فيها السلطة التشريعية الاقتراب من قانون السلطة القضائية تقوم الدنيا ولا تقعد, هذه إذن المعضلة التي تتكشف معها حقيقة التناقض بين المطالب المتعارضة, بين التطلعات والإحباطات, كيف نضمن القصاص للشهداء دون الثورة علي النظام القانوني لما قبل الثورة؟ والأمر كذلك لا يمكن تحميل النظام الحالي وحده عبء ما جري وما يجري, رغم تحمله المسئولية الأكبر, فمؤسسات الدولة غير مكتملة وإن وجدت فهي لا تعمل وإن عملت فالأغلب الأعم أنها تسير في الاتجاه المضاد, بما يؤكد أن أزمات اليوم واخفاقات واحباطات اليوم ليست فقط إرثا تاريخيا بل نتاجا للثورة المضادة, وإذا كان المتمردون قد نجحوا بالفعل في جمع خمسة عشر مليونا من التوقيعات أو خمسين مليونا أليس الأجدي بهم أن يتجهوا بهذا الدعم الشعبي غير المسبوق إلي تشكيل حزب سياسي يخوض الانتخابات البرلمانية القادمة عندها يمكن تشكيل البرلمان وإسقاط الدستور وتشكيل الجمعية التأسيسية ووضع دستور جديد وتأليف الحكومة وهكذا إلي أن يأتي موعد انتخابات الشوري ثم الرئاسية, إن الدعوة لإسقاط النظام وتبرير هذا المسلك سياسيا وإعلاميا بعيدا عن الصندوق الانتخابي هي بحق دعوة لهذه الأمة للانتحار, ولا أظن أن شعب مصر العظيم صاحب الحضارة الضاربة في أعماق التاريخ الذي فاجأ العالم بثورته السلمية يمكن أن يعطي الفرصة لأحد للانقضاض علي ثورته وحضارته وعلي الجميع مؤيدين ومعارضين أن يتوقفوا عن هذا العبث حتي لا تسخر منا الأمم. لمزيد من مقالات د.بسيونى حمادة